تحضر جماهير كرة القدم إلى الملاعب لغايات مختلفة، البعض للاستمتاع بالمجريات، والبعض لتمضية الوقت، أما الغالبية فللتشجيع والهتاف، لذا كان لا بد من ضابط إيقاع، هو في الواقع «رئيس الأوركسترا»
ابراهيم وزنه
في إضاءة على واقعنا الكروي اللبناني، حيث المواكبة الجماهيرية آخذة بالتراجع تحت وطأة التردّي الاقتصادي والانقسام السياسي وتراجع المستوى الفني، ما زالت بعض الأندية تعوّل على استعادة «جماهيرها»، ومنها من يصرف الأموال لتفعيل أداء الروابط مع الاعتراف بالدور الفاعل لرئيس الأوركسترا، الذي غالباً ما توازي شهرته شهرة نجوم الفريق. واليوم، «نفلفش» أوراق أشهر مَن أدى دور المايسترو في المدرجات.

ثلاثي تاريخي

ربيع فرحات (برزان النجمة في الستينيات والسبعينيات)، عصام عيّاد (مذياع الأنصار الراعد في الثمانينيات والتسعينيات)، بشير هيكل الملقب بـ«باشو» (ضارب طبل الحكمة منذ 15 عاماً). لكل منهم ذكريات حافلة، منهم مَن دفع من جيبه، ومنهم مَن قبض ثمن تشجيعه! منهم مَن ترك الملاعب، ومنهم مَن لا يزال مستنفراً للمواسم المقبلة.
ربيع، ابتعد لانقلاب صورة ناديه، عصام، أبعدته مناكفاته مع ناديه، أما «باشو» فلا يزال في قلب الحكمة مشجعاً مستفيداً. إليكم حكاياتهم، وذكرياتهم.

فرحات يبكي «نجمته»

ربيع فرحات (59 سنة)، يحفظ النجماويون القدامى ملامحه المريحة. قصدناه في محله لبيع قطع غيار السيارات في الغبيري، فأفادنا بأنه تعلّق بالنجمة حبّاً وتشجيعاً منذ عام 1966، «كان النادي يجسّد لبنان كله وفي صفوفه أربعة لاعبين من منطقتي ـــــ الشياح»، وعن الماضي الجميل، قال: «كان الجمهور يتجاوب مع زمّوري بشكل رائع، لا بل كان هدير الجماهير وصوت الزمّور يصلان إلى قلب الشياح والغبيري والطريق الجديدة. بصراحة كنّا نشجّع من دون تعصّب». وعن دعمه للنجمة، حدّثنا متحسّراً: «كنت أحرص على شراء تذكرة دخول لإيماني بدعم النادي»، ثم استذكر بعيون دامعة: «كنت وبعض المتحمسين، كداوود ماجد وسامي الزين وعلي بكري وأحمد فرحات وزهير دمشقية ندفع 25 ليرة شهرياً لدعم صندوق النادي، وكنّا نجتمع في محل دمشقية في البلد للتباحث في تفعيل التشجيع، ثم نضع الإدارة في أجواء اجتماعاتنا».
وعند استرجاع شريط الذكريات، ابتسم سارداً: «ذات مرّة منعوني من استعمال الزمور، وجاءني أحد رجال الدرك إلى المدرج طالباً مني تسليمه، متعهّداً أن يعيده إليّ عند انتهاء المباراة، فأنكرت وجوده بحوزتي، لكن عندما سجّل فريقنا الهدف الأول رحت «أزمّر» والجماهير تهدر متجاوبة، عندها أسرع دركيان نحوي لمصادرته، لكن الزمور تنقّل بسرعة من يد إلى أخرى قبل وصولهما، ولم ينفعهما تفتيشي، ووقفا بقربي لبعض الوقت قبل أن ينصرفا، ليعود الزمور سالماً، وزمّرت مطوّلاً بعد الفوز». وصارحنا أعتق النجماويين، بأنه لم يعد من مشجعي النادي حالياً، «لتحوّله من فريق لكل لبنان إلى زاروب وحيّ»، ثم لفتنا إلى أنه ما زال يحتفظ بصداقاته مع رجالات تلك الفترة من لاعبين ومدربين ومشجعين، ليختم: «كنّا نزرّك لبعضنا من دون إساءات شخصية، وكنّا نهتف للنادي 90 دقيقة وللرئيس عمر غندور لحظة وصوله إلى الملعب فقط، أما اليوم فالعكس تماماً، السياسة خرّبت الفوتبول، والأجواء السائدة ليست رياضية».

عيّاد.. الأشهر

«خلف مدرجات جمهور النجمة... أنا بانتظاركم» هكذا حدد لنا الأنصاري العتيق عصام عياد (55 سنة) مكان عمله، باغتناه يتناول فطور الصباح في رمضان فهب قائلاً: «نكاية بالمسلمين المختلفين ما عم بصوم»، ورحنا نفلفش صفحات «مؤلف الأغاني والممثل والمفتاح الانتخابي والمختار». إنه رئيس أوركسترا الأنصار منذ 35 سنة، وصارحنا بأنه ترك المهمة منذ 4 سنوات معللاً: «عودتي رهن بعودة رئيس رابطة الجماهير الأسبق وليد العشي إلى موقعه مكرّماً» ويضيف: «وعندما يبطل في هتافات سياسية وطائفية في المدرجات».
فاجأناه، أنت تقبض بدل التشجيع، فانتفض مبيناً: «عندما كنا نستعين بفرقة من خارج روابط النادي كنا نوفر لها مصاريفها، ولا أنكر أن رئيس النادي سليم دياب كان يكرمني ويدعمني مادياً». وعن الذكريات، سارع وأحضر مفكرته «كنزه الإعلامي»، ليقرأ ما قاله الوزير تمام سلام عنه بعد مباراة الأنصار وباس الإيراني: «عصام عياد قائد أوركسترا خطير وفعّال ومؤثر، لا بل هو اللاعب الأساسي في المباراة». ويضيف عيّاد ضاحكاً: «يومها حملوني ونسيوا اللعيبة»، ويعترف «أشهر انصاري» بأن جمهور النجمة أكبر بكثير من جمهور الأنصار، «النجماويون أكثر بالعدد لكن الأنصاريين أكبر بالفعالية»، ليبقي التعادل سائداً بين اللدودين السابقين. وعن مهامه قال: «اتوسط الفرقة حاملاً المذياع وأولّع المدرجات بالموشحات، ومنذ تركت المدرجات بعدن عم يرددوا أغنياتي». وروى مفتخراً، «ذات يوم أوقفني الجيش في قصر نورا ولما عرف الضابط المناوب بوجودي استدعاني إلى مكتبه وقال لي: اعتبر نفسك في مكتبي مكرّماً لا موقوفاً».

«باشو» والمكافآت

بشعره المجدول ووقفته الصلبة على حافة المدرّج، ضارباً الطبل، يدير الفرقة، يطلق الإشارات كرئيس أوركسترا حقيقي، هكذا اعتاد متتبّعو مباريات الحكمة ميدانياً وتلفزيونياً أن يروه، انه بشير هيكل (43 سنة)، المعروف بلقبه أكثر من اسمه، تسلّم المهمة منذ 15 سنة بطلب من إدارة مدرسة الحكمة ولا يزال لغاية اليوم مواكباً فعّالاً لفرق الحكمة، والأكيد، برأيه، أن الشهرة وصلته عبر كرة السلة. وعن دوره قال: «أضبط إيقاع الفرقة التي ترافقني، نعزف أناشيد التشجيع الحماسية وخصوصاً الحكماوية، ونحرص على تنسيق الجهود أثناء إطلاق الهتافات»، ليكمل شارحاً: «نوجّه الجماهير ونمنع إطلاق الشتائم والشعارات السياسية، التي تزايدت أخيراً على حساب الرياضة، لكننا نضبط الأمور بسرعة». وتمنى «أن يقوى التشجيع عندما يكون الفريق متأخّراً، ويحلو التزريك للجمهور الخصم، من دون اللجؤ إلى تبادل الشتائم». ولم ينكر «باشو» أنه يتقاضى راتباً شهرياً لقاء مهامه التشجيعية التي يؤديها منذ سنوات، ولطالما نال مكافآت مادية عند تحقيق البطولات، ولم ينسَ كذلك كرم «الشويري وجورج شهوان»، لافتاً إلى مشاركته في اجتماعات رابطة جمهور النادي للتنسيق، ومؤكداً أن التشجيع الفعّال يساعد على تحقيق الانتصارات.


ملاعب

جماهير الرياضة... إلى الوراء در

خلال فترة السبعينيات، أيام العزّ الكروي اللبناني، كانت الجماهير تواكب فرقها وتشجّعها لاعتبارات مختلفة وبفعالية لافتة. ولا أحد ينكر أن جمهور نادي النجمة في تلك الحقبة كان الأكبر عدداً (30 ألفاً) يليه جمهور هومنتمان (20 ألفاً) ثم الراسينغ (15 ألفاً). ولاحقاً، انعكست الأوضاع المتقلّبة في لبنان على واقع المواكبة الجماهيرية، فأخذت تتناقص بريبة، واليوم لا تتجاوز بضع مئات موزّعة على كل الفرق. والجدير ذكره أن ابتعاد الجماهير عن الأندية مردّه عادة إلى سوء الإدارة أحياناً وتراجع المستوى الفني أحياناً كثيرة. لكنّ الثابت عندنا، أن تغلغل الأنفاس السياسية والطائفية والمذهبية في الرياضة عامة، وكرة القدم خصوصاً، جعل الأندية في واد وجماهيرها في وادٍ آخر. وأخيراً أطلق الاتحاد اللبناني لكرة القدم حملته الوطنية بهدف استعادة الجماهير إلى المدرّجات أملاً بأن تعود الحياة إلى اللعبة الشعبية. فيما يؤكد المراقبون أنه حتى لو لجأ الاتحاد إلى فتح أبواب الملاعب مجاناً أمام الراغبين في متابعة المباريات، فلن تتحسّن الأمور ولن تعود الأيام الخوالي إلى سابق عهدها، وهذا ما يدفعنا لمناشدة الغيارى بالدعوة إلى عقد مؤتمر وطني إنعاشي عنوانه «كرة قدم بعيدة عن السياسة والطائفية».

ربيع فرحات «برزان» النجمة في الستينيات والسبعينيات، عصام عيّاد مذياع الأنصار الراعد في الثمانينيات والتسعينيات