لم يعد الأثرياء الروس أصحاب الثروات المجهولة المصادر وحدهم في ساحة كرة القدم المحلّية والأوروبية، فقد دخلت مافيا بلادهم إلى الميدان لتنافسهم في مجال ضخّ الأموال، وذلك في مرحلةٍ تشهد فيها الكرة الروسية بزوغ مواهب استثنائية
شربل كريم
القضية المستجدة التي هزّت الكرة العالمية والقضاء الأوروبي جاءت بعد إلقاء القبض على أفراد عصابة «تامبوفسكايا ـــــ ماليشفسكايا»، وعلى رأسهم جيناديوس بتروف، بعد اعتراض اتصالات بينهم تتمحور حول تأمين فوز فريق زينيت سان بطرسبورغ الروسي بكأس الاتحاد الأوروبي في الموسم الماضي. وقد رصدت هذه المافيا مبلغ 50 مليون يورو لشراء مباراتي الدور نصف النهائي والمباراة النهائية، ودائماً بهدف كسب الأموال الطائلة بعد قلب جميع التوقعات في مكاتب المراهنات. لا يخفى أن زينيت فريق قوي أثبت جدارته، لكنّ فوزه العريض على العملاق الألماني بايرن ميونيخ 4ـــــ0 في إياب دور الأربعة، أثار الشكوك وفتح آذان الاستخبارات الأوروبية على اتصالات أشخاصٍ مشتبه فيهم.
وإذ يبدو بلوغ الحقيقة عسيراً، على الأقل في وقتٍ قريب، لكون الشرطة الإسبانية التي ألقت القبض على المافيا الروسية لم تستطع التأكد من إمكان حصول أي اتصال بين الأخيرة وأفراد من الفريق البافاري، أحسن الاتحادان الأوروبي والدولي للعبة بالطلب إلى المحققين الإسبان إفادتهما بأي معلومة يعترف بها المتهمون وتتعلق من قريب أو من بعيدٍ بكرة القدم.
ويدرك الجميع الآن أن اللعبة لم تعد بمنأى عن إرهاب التلاعب المسيء إليها بعد خروج المافيا الروسية من الظلمة إلى إجراء عمليات تحت الأضواء المسلّطة دائماً على اللعبة الشعبية الأولى. لكنّ السؤال الذي سيطرح هو: إلى أي مدى استفادت أو ستستفيد الكرة الروسية من لاعبٍ إضافي في ملاعبها؟

«المافيا» اللاعب الثاني عشر

الأمر الملموس أنّ فوز زينيت بالكأس الأوروبية رفعه إلى الجنة، لكن حتى لو ثبُت أن المافيا كانت اللاعب الثاني عشر في الفريق، فإن الأخير يعرف تماماً أن إقامته فوق الغيوم قد تكون مرحلية وينتهي الأمر به في النار. إذ إن كل ما يهم عصابات من هذا النوع هو توفير مكاسب لها وقد تستخدم الفريق الروسي من باب ردّ الدين في مرحلةٍ مقبلة لربح المزيد من الأموال. أي بمعنى آخر، لا يستبعد أن يتسلّم أعضاء من المافيا مناصب إدارية في الأندية من أجل ترتيب مسبق لنتائج المباريات، وبالتالي الطلب أحياناً من الفرق الموجودة تحت سيطرتها خسارة مباريات أمام منافسين أضعف منها، لإدخال مبالغ إضافية إلى أرصدتها المالية السوداء.
وبالحديث عن المال غير النظيف، يربط البعض بين اقتحام المستثمرين الروس بثرواتهم الطائلة الأندية المحلية والأوروبية على حدٍّ سواء، وتحوّل اللعبة أرضاً خصبة لتلاعب المافيا. إذ إن الشبهات أثيرت دائماً حول وجود هؤلاء المستثمرين في أندية لم يشهروا أي انتماء إليها، وتبيّن لاحقاً في بعض خطواتهم أنهم استخدموها فقط لغسل الأموال. ومن هذه الخطوات غير المعلنة، صفقة انتقال الأرجنتينيين كارلوس تيفيز وخافيير ماسكيرانو من كورينثيانس البرازيلي، وكان وراءها رجل الأعمال الروسي المنفي بوريس بيريزوفسكي.
أما الأمر اللافت، أخيراً، فهو التحذير الذي أرسله الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إلى نادي تشلسي الإنكليزي، من أن ديونه وصلت إلى حدٍّ خطير يهدد وجوده، وهو أمر كان وقعه قوياً على جمهور الفريق اللندني الذي نام على حرير في الأعوام الأخيرة مطمئناً إلى وجود الملياردير الروسي رومان ابراموفيتش الذي قيل إنه يستخدم ماله الخاص لاستقطاب أبرز نجوم اللعبة!

الأندية المستفيد الأكبر

وإذ تحوّل العديد من الأندية الأوروبية إلى شبه غسالات يستعملها أثرياء روس لإزالة الأوساخ عن ثرواتهم المشبوهة، فإن الأمر الملموس هو استفادة الكرة الروسية بشكلٍ أو بآخر للنهوض مجدداً والإقدام على محاولة أخرى لاقتحام العالمية، بعد الخيبات المتتالية، حتى في ظل تجمّع كل النجوم تحت كنف الاتحاد السوفياتي. الدليل الساطع على هذه المقولة ما تركته الكرة الروسية من بصماتٍ على الساحة الأوروبية. إذ إن البلاد التي لم تتذوق سابقاً طعم الفوز بكأس الاتحاد الأوروبي احتفلت ببطلين حققا الانجاز في ظرف ثلاث سنوات فقط، سسكا موسكو في 2005 وزينيت في 2008، ثم ظهر المنتخب قوة ضاربة في كأس أوروبا الأخيرة، وبلغ الدور نصف النهائي.
طبعاً، أدى المال الذي ضُخّ في خزائن الأندية والاتحاد المحلّي دوراً أساسياً في تحقيق هذه النتائج. إذ إن النهضة الاقتصادية المتسلّحة بالذهب الأسود تبنّت كرة القدم التائهة في «بلاد القياصرة» منذ انفراط عقد الاتحاد السوفياتي عام 1991، حيث تشتّت اللاعبون بين البلدان المستقلة وابتعد الناس عن الاهتمام باللعبة، وسط سعيهم إلى توفير حياة مستقرة في ظل مشكلات اجتماعية وسياسية لا تحصى.
إذاً استخراج النفط والغاز أخرج معه أثرياء أحدثوا ثورة بتوجههم نحو المستطيل الأخضر، وعلى رأس هؤلاء أبراموفيتش الذي رغم انغماسه في نادي تشلسي، لم يتجاهل بلاده، فكانت إحدى شركاته الراعي الأول لسسكا موسكو الذي كان السبّاق إلى اعتماد سياسة النجوم البارزين في الدوري الروسي، وقد شجّع إنجازه الأوروبي الأندية الأخرى للبحث عن مستثمرين، فدفع توربيدو ميتالورغ، مثلاً، المدعوم من شركة نفط أخرى، فريقاً من اللاعبين الأجانب في إحدى المباريات عام 2003.
إلا أن الاتحاد الروسي تدارك الأمر، وسمح بالتعاقد مع 8 لاعبين أجانب فقط، يوجد خمسة منهم على أرض الملعب، الأمر الذي مكّن اللاعبين الروس من اكتساب خبرة اللعب مع هؤلاء، لا متابعتهم من مقاعد البدلاء. إلا أن خطوة الاتحاد المحلّي لم تتضارب مع زحف ما يسمى المستثمرين إلى الأندية، فقررت شركة «غازبروم» المعروفة رعاية زينيت من ناحية بناء ملعب جديد، وحتى التعاقد مع مدرب شهير هو الهولندي ديك ادفوكات ولاعبين غير معروفين تقريباً، بمبالغ كبيرة، آخرهم البرتغالي داني الذي قدم إلى النادي من دينامو موسكو الروسي مقابل 30 مليون يورو، فضلاً عن منح عقود دسمة لأبرز لاعبي الفريق، أندري ارشافين وبافل بوغريبنياك، اللذين لم يجدا شيئاً مغرياً في العروض الخارجية لترك ناديهم الحالي الذي كان حتى الأمس القريب مغموراً يبحث عن لقبٍ كبير ومكانٍ بين النخبة.

من الأندية إلى المنتخب

انسحب ضخ الأموال في كرة القدم الروسية من الأندية إلى المنتخب الذي كان مهملاً قبل 4 أعوام تقريباً، ودأب على تحقيق النتائج السلبية، وكان أسوأها في التصفيات المؤهّلة إلى مونديال 2006 عندما لقي سقوطاً مريعاً على يد نظيره البرتغالي 1ـــــ7، وهي خسارة وصفها رئيس البلاد السابق فلاديمير بوتين بأنها مهينة للأمة برمّتها، معلناً حالة الطوارئ لاستعادة الهيبة المفقودة كروياً منذ اضمحلال الروح السوفياتية الساعية للتفوّق في كل المجالات الرياضية.
وبهدف إرضاء الرئيس وعدم مواجهة مصير بيريزوفسكي الذي كانت عقوبته النفي بعدما ساءت علاقته ببوتين، ظهر «الثعلب» ابراموفيتش (صورة 1) «متبرّعاً» بأجر المدرب الهولندي غوس هيدينك (صورة 2) للإشراف على المنتخب الروسي. وبالتأكيد، لم يكن هناك شك عند أحد في إمكان نجاح المدرب المحنّك الذي سرعان ما حوّل اللاعبين الروس إلى أسلحة خطيرة، فقدّموا كرة هجومية جذابة أبهرت العالم في «يورو 2008».
رغم المخاوف من استخدام جماعة البترودولار للأندية المحلّية أرضاً لعملياتهم المشبوهة، ورغم زحف اللاعبين الأجانب تجاه الدوري الروسي، فإن اختلاط هذين العاملين بالمواهب الصاعدة، أسهما بشكلٍ أو بآخر في نهوض كرة القدم الروسية ووضعها في الواجهة، لكن الحذر سيكون دائماً سيّد الموقف، لأن تسرّب فساد المافيا إلى الملاعب سيضرب من دون رحمة، أو حسابات، إلا للمبالغ المضافة إلى الأرصدة المصرفية. لذا، فإن هذه النهضة لا تُسقط السؤال القديم: أيّ مستقبلٍ ينتظر الكرة الروسية؟


رعاية رئاسية وجرائم قتل

فيما ينعم زينيت برعاية الرئيس الروسي ديميتري مدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين، برزت في أيار الماضي قضية ارتباط فريق روبين قازان متصدّر الدوري بالمافيا. إذ ألقي القبض على مديره الرياضي رستم سايمانوف المتهم بثلاث جرائم قتل، كان وراءها عام 1996 رجل الأعمال والداعم للنادي، راديك يوسوبوف