قبل عقدين من الزمن في سيول، فازت الصين بخمس ميداليات ذهبية فقط. أما في أثينا 2004 فقد حققت 32 ميدالية، وحلّت ثانية خلف الولايات المتحدة
حسن زين الدين

يسعى «بلد المليار» في أولمبياده إلى توجيه «ضربة» للأميركين وانتزاع صدارة لائحة الميداليات. طموح الصينيين هذا، لم يكن وليد الساعة أو متمخّضاً من التطلّع نحو الاستفادة من عامل الأرض، بل هو نتاجٌ طويل لأمة زرعت فيها أهمية التفوّق الرياضي كعاملٍ أساسي ومحفّز لاستنهاض همّة الشعب. ولعل الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية شكّلت التحوّل المذكور، إذ أوردت مجلة « تايم» الأميركية، أن أول مقالة نشرت لرئيس البلاد ماو تسي تونغ، تضمّنت تركيزاً على أهمية النجاح الرياضي لاستعادة روحية الأمة «إن لم تكن أجسادنا قوية، فكيف باستطاعتنا تحقيق أهدافنا وكسب احترام الآخرين».

ما بين الأمس واليوم

بالنسبة إلى كثيرٍ من الصينيين، الانتصار في بكين لا يبرهن على أن بلادهم أضحت من القوى العظمى رياضياً فقط، بل يمحو ما لحق بهم من إذلال تاريخي جرّاء القوى المستعمرة. الصين المروّعة بنيران الغرب، وُصفت في بداية القرن العشرين «بالرجل المريض» في آسيا، إذ قبل ثلاثة عقود، كانت البلاد تعاني العزلة، ووحدها ألبانيا كانت ترتبط بها بعلاقات في الشقّ الزراعي. اليوم، أصبح للصين الكثير من الشركاء الجدد في مختلف أنحاء العالم، وباتت تنافس أميركا وأوروبا في الصراع للسيطرة على الأسواق العالمية والمصادر الطبيعية.
حالياً، تحقيق الصين للانتصار المنتظر في الأولمبياد، سيمثّل ضربة للاعتراضات التي سبقت البطولة في التيبت، أو في شأن إرسال الجيش الصيني إلى دارفور، كما أنه سيُعدّ بلسماً لجراح أمّة لا تزال تعاني مأساة فقدانها 70 ألف مواطن في الزلزال الذي ضرب البلاد في أيار الماضي.
بعد حصولها قبل حوالى سبع سنوات على حقوق تنظيم الألعاب الأولمبية، أعلنت حالة «الطوارئ» في البلاد، وتهيّب الجميع للحدث القادم. لم ينم الصينيّون على حرير، فقد كان مجرّد إعلان فوزهم بشرف تنظيم الأولمبياد إيذاناً بأن «المعركة» قد حانت. إذ قامت الإدارة الرسمية العامة للألعاب الرياضية في البلاد حينها بالكشف عن سياسة وزارية هي «تحقيق الفخر في الأولمبياد». ويحمل المشروع الطويل الأمد اسم «خطة الميدالية الذهبية»، والذي يهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الميداليات الذهبية.
كذلك أطلقت إدارة الألعاب الرياضية الوطنية خطة «119 مشروعاً»، أو بحسب وزارة الرياضة «119 ميدالية ذهبية»، التي تهدف إلى تحقيق النجاح في مجالاتٍ قليلة باقية لا تزال تعاني فيها البلاد ضعفاً، وهي الألعاب الشتوية وألعاب القوى.
إضافةً إلى ذلك، فإن الصين تعدّ البلد الوحيد في تصنيع الأدوات الرياضية الوطنية. إذ قامت الإدارة الرياضية بتحديث المصانع التي تعود إلى نظام قديم يتّبع الأسلوب السوفياتي، وهذا الأمر أسهم في تعدد المعاهد الرياضية التي ينتسب إليها الناشئون في المجال الرياضي.

كلفة الذهب

في الثمانينيات، توسّعت منظومة المدارس الرياضية لضمان تحقيق الرياضيين الصينيين الفخر لبلادهم. بالنسبة إلى العديد من الأهالي، كان توفير ثلاثة أكواب أرزّ يومياً لأولادهم كافياً لإقناع أنفسهم بأن قساوة التدريب تستحق ذلك. لكن بدءاً من التسعينيات، ومع الانفتاح الاقتصادي في البلاد، بات القليل من الأهالي يتحمّسون لإرسال أولادهم للتدرّب على رفع الأثقال في وقت يستطيعون فيه دراسة علوم الكومبيوتر.
لكن مع «بكين 2008» تبدو الأمور مختلفة. إذ بعد عام 2001 (بدء المشروع)، زادت ميزانية وزارة الرياضة السنوية من 428 مليون دولار قبل عام، إلى 714 مليوناً. «مع الألعاب الأولمبية في بكين، يجب أن نتأكد من أننا نؤدي عملنا جيّداً»، يقول هاو كيوانغ وزير الرياضة ويضيف: «الجمهور سيكون مستاءً إن لم نبرز الروحية الوطنية الحقيقية».
في الصين حالياً، ثمّة «جهد ثمين»: إذ إن كل ميدالية ذهبية ستكلّف الأمة أكثر من 7 ملايين دولار، بحسب باو مانغسياو مدير وزارة الرياضة للعلوم الفيزيائية.
في مدينة المعاهد الرياضية « كينغداو»، إحدى مناطق إنتاج الأرضيات للرياضات الأولمبية، دفع مديرها كياو كسيانغدونغ الحكومة المحلية إلى بناء مخيمات جديدة بقيمة 30 مليون دولار لـ600 طالب. «في السابق، بعض الأهالي كانوا يخشون إرسال أولادهم إلى المدارس الرياضية، لأنهم سيضطرون إلى الأكل بقساوة»، يقول كياو ويردف، مضيفاً: «لكن أولمبياد بكين جعل الناس يتحمّسون للمساهمة في مجد الأمة».
لكن رغم كل هذه الاستراتيجيات، لا تزال الرياضة الصينية تعاني ضعفاً في الألعاب الجماعية، مثل كرة القدم والسلة، لكن ما «يشفع» في الألعاب الأولمبية أنّ حصد أكبر عدد من الميداليات يتطلب تفوّقاً في الألعاب الفردية، وهنا تكمن قوة الصينيين. إذ على سبيل المثال، تعدّ لعبة كرة الطاولة إحدى الرياضات التي تسهم في مجد الأمة، ذلك أن الصين تسيطر على هذه اللعبة منذ سنوات طويلة، وتعتمد عليها في أولمبيادها المقبل.
في مدرسة لونيغ لتعليم كرة الطاولة في محافظة شاندونغ، يحتشد 230 طالباً في صالة تحتوي على 80 طاولة «بينغ بونغ». في الصباح، يتدرّب الأولاد حوالى 4 ساعات يومياً، ويتضمّن برنامج بعد الظهر صفوفاً للتعليم الأكاديمي، إضافةً إلى 3 أيام في الأسبوع يتعلم فيها الأولاد مهارات اللعبة في حصصٍ مسائية، والكثير من الأولاد يرون عائلاتهم أسبوعين في السنة فقط!
بالإضافة إلى كرة الطاولة، فإن السباحة، وتحديداً الغطس، تعدّ من الرياضات التي يبرع فيها الصينيون، حيث حققوا 6 ميداليات ذهبية من أصل 8 ممكنة في أولمبياد أثينا، كما تتميّز الصين في لعبتَي رفع الأثقال والرماية. وتبدو التايكواندو مثالاً للتطور الرياضي الكبير في البلاد، فقد تأسّس أول منتخب تايكواندو وطني في البلاد عام 1995، وما هي إلا 5 سنوات فقط حتى حقق الفريق الميدالية الذهبية في أولمبياد سيدني «بالرغم من أن الأجسام الصينية ليست قوية على غرار مثيلاتها في البلدان الأخرى»، يقول مدير مدرسة كينغداو، كياو، ويضيف: «لكن بإمكاننا أن نؤدي بصلابة أكثر من غيرنا، وهذا مكمن أفضليتنا على الآخرين».

دور المرأة

تشتهر المرأة الصينية بقدرتها على التحمّل في التدريب القاسي، عكس مثيلاتها في أميركا، حيث مجال الدعم في ألعاب الرياضة النسائية يبدو أقل منه عند الرجال. إذ يكفي المقارنة بين دوري كرة السلة للمحترفين رجالاً وسيدات. بينما يبدو الوضع مختلفاً في الصين، حيث الرياضة النسائية تتجه نحو تمويل أكبر، ويكفي أنّ سيدات الصين حقّقن 60 في المئة من الميداليات الذهبية لبلادهن في أولمبياد أثينا 2004.
إذاً، أمام الإصرار والتصميم واستحضار التاريخ، تبدو الصين ماضية في جهوزية تامة لمنازلة الولايات المتحدة الأميركية في «معركة» طاحنة تبدو استكمالاً لـ«حرب باردة» تدور رحاها في الاقتصاد والسياسة بين القوتين العظميين.


«مناورة» أخيرة؟

بعد سبع سنوات من التحضيرات التي كلّفت حوالى 20 مليار دولار، وفي بلاد تضمّ 3 آلاف معهد رياضي تحوي 400 ألف طالب، أعلن مصدر في وزارة الرياضة أخيراً أنه لا يتوقع أن تتجاوز الصين منافستها الولايات المتحدة في الأولمبياد. هذا التواضع يبدو تكتيكياً، إذ بالعودة إلى أولمبياد أثينا، كانت السلطات الرسمية الرياضية تهدف إلى تحقيق 20 ميدالية ذهبية كحدّ أقصى، بينما حققت البلاد 32. وفي مثل الألعاب الأولمبية فإن 12 ميدالية ذهبية يبدو رقماً كبيراً، وقد تحقق 60 في المئة منها بفضل رياضيين صغار سيكونون حاضرين لمواجهة أميركا في الحدث العالمي المقبل