32 عاماً مضت على وفاة الديكتاتور اليميني المتطرّف الجنرال فرانكو، ولا تزال إسبانيا تتخبط في حوادث التفرقة العنصرية التي يبدو أنها متغلغلة في المجتمع المدني، لكنها لا تظهر فعلاً إلى العالم إلا حيث توجد الأراضي الخصبة، وما أكثرها في المناسبات الرياضية!وتظهر إسبانيا اليوم بصورةٍ أشبه ببريطانيا في سبيعنات وثمانينات القرن الماضي حيث تختبر هذه البلاد توافد المهاجرين الأجانب إليها من كل حدب وصوب. وربما كان قدوم هؤلاء بطرقٍ غير شرعية قد ترك عند أفراد المجتمع الإسباني نوعاً من الصعوبة في تقبّل «العرق» الآخر، فوجد مشجعو الرياضة الملاعب، وحديثاً الحلبات مساحات حرّة للتعبير عمّا يختلج في صدورهم.
وعادت قضية العنصرية لتطرح نفسها بقوة على مسرح الأحداث بعد الإهانات التي وجّهت إلى السائق «الأسمر» لويس هاميلتون الذي كان يخوض نهاية الأسبوع الماضي جولة من التجارب مع فريقه ماكلارين مرسيدس على حلبة مونتميلو (كاتالونيا) في مدينة برشلونة استعداداً للموسم الجديد في بطولة العالم لسباقات سيارات الفورمولا 1.
إلا أن الخطورة هنا لا تكمن فقط في دسّ حقد العنصرية في رياضة لم تتعرف عليها من قبل، بل في ملاحقة شبح هذه الآفة للرياضة الإسبانية بحيث إنها ليست المرة الأولى التي تزورها، إذ حفلت بها ملاعب كرة القدم تحديداً في الأعوام القريبة الماضية.
ولا يخفى أن عدوى العنصرية كانت قد أصابت حتى المسؤولين، إذ أثار مدرب منتخب إسبانيا لكرة القدم لويس أراغونيس جدلاً واسعاً عندما استخدم عبارات عنصرية قبل عامين، واصفاً المهاجم الفرنسي تييري هنري «الأسود التافه»، وبرّر قوله وقتذاك بأنه كان يحاول تحفيز خوسيه أنطونيو رييس، زميل هنري السابق في أرسنال الإنكليزي أثناء تدريب للمنتخب الإسباني.
أما الأمر المستجد في قضية هاميلتون فهو إعادة فتح ملف لم يكن قد أغلق بعد بين إسبانيا وإنكلترا اللتين عادتا لتتقاذفا التهم عبر وسائل الإعلام، لتعود إلى الذاكرة جولاتهما بعد أحداث ملعب «سانتياغو برنابيو» خلال المباراة الودية بين المنتخبين الإسباني والإنكليزي قبل عامين، حيث وجه المشجعون الإسبان إهانات عنصرية إلى لاعبي إنكلترا شون رايت فيليبس وأشلي كول، وكان يقابل كل منهما بأصوات تشبه أصوات القرود فور تسلمه الكرة.
إلا أن هذه القضية لم تنتهِ بهذه السرعة، إذ أدينت جماهير نادي ريال مدريد بعد هذه الواقعة مباشرة بالعنصرية، لأنها قامت بأداء التحية النازية تجاه لاعبي باير ليفركوزن الألماني في مباراة الفريقين ضمن دوري أبطال أوروبا، وردّدت الجماهير المدريدية الهتافات العنصرية ضد لاعبين ملوّنين في الفريق الألماني، ثم انتقلت العدوى إلى ملاعب إسبانية أخرى، منها «ستاد روماريدا» الخاص بريال سرقسطة الذي شهد إساءة عنصرية استهدفت مهاجم برشلونة الكاميروني صامويل إيتو، حين أطلقت الجماهير هتافات تقلّد أصوات القرود كلما وصلته الكرة في المباراة، وألقيت حبات فول سوداني على الملعب بعدما سجل أحد الأهداف، وقد احتفل إيتو بتقليد قرد. وقال اللاعب وقتذاك: «رقصت مثل قرد لأنهم عاملوني كقرد».
وإذ توعّد وزير الرياضة البريطاني جيري ساتكليف برفع شكوى إلى الاتحاد الدولي لرياضة السيارات «فيا» بشأن ما حصل مع هاميلتون، فهو عبّر إلى نظيره الإسباني عن انزعاجه بأن ما تنقله غالباً الصحف البريطانية عن حوادث عنصرية تصيب رياضيين إنكليز يكون مصدرها إسبانيا. ولم تتأخر هذه الصحف البريطانية عن شنّ حملة انتقاد على الإسبان، انطلاقاً من «ذا صن» الواسعة الانتشار والتي أبرزت الخبر على صفحتها الأولى مرفقاً بصور للمشجعين الذين كانوا على حلبة كاتالونيا، وقد ارتدوا ملابس سوداء وصبغوا وجوههم باللون الأسود، وقد اتهمت الصحيفة عينها وسائل الإعلام الإسبانية بالتعتيم على الحادثة رغم أن صحيفة «إل موندو» كانت السبّاقة بوصف الأمر بأنه «مهرجان إحراج لإسبانيا».
وبدت «ذا دايلي تلغراف» الأكثر قساوة في اتهامها، إذ عنونت «العنصرية هي الرياضة الإسبانية»، وقد ردّت عليها «آس» فوراً بأن تصرّف بعض المشجعين لا يعني أن الأمر ينطبق على أبناء إسبانيا جميعهم.
وأيّاً يكن من أمر، فإن مسألة تفشي العنصرية في إسبانيا هي أشبه بكرة الثلج حالياً، رغم نفي الإسبان لهذا الأمر، متهمين البريطانيين بتعظيم المسألة عبر وسائل الإعلام، وغامزين من قناة «الهوليغانز» الإنكليز الذين يعيثون فساداً في كل زيارة لهم إلى بلاد الأندلس، إضافة إلى اعتبارهم أن الإهانات التي تعرّض لها إيتو وهاميلتون مثلاً تندرج ضمن إطار التعصّب الرياضي دون سواه بصفتهم خصوماً لا أكثر ولا أقل.
إذاً تحطّ حمى العنصرية الآن في إسبانيا وسط إمكان الجزم بوجودها في جميع أرجاء القارة الأوروبية، ويبدو مستغرباً الاتهامات المتبادلة بين الطرفين الإسباني والإنكليزي بأن أحدهما لا توجد لديه مشكلة مع الأعراق أو الديانات الأخرى، بينما يتخلّف الآخر عنه بعقود في مجال الانفتاح، إذ لا بد من التذكير بأنهما كانا في الماضي أشرس المتنافسين على «جائزة» أبرز بلد استعماري عبر التاريخ.
(أ ف ب)