علي صفا
يتفاعل الشغب في ملاعب العالم، ملاعب الرياضة وغيرها، حيث تختلط مشاكل أطراف المجتمع بين حاكم ومحكوم وضاغط ومضغوط، وتسقط ضحايا وتقفل ملاعب وتتحرك أجهزة الأمن في طرح الضوابط وغيرُها في تحليل الحالات، وعندنا ما يقاربها وندفع ثمنه غالياً... فما هي أسباب الشغب؟

الشغب في اللغة يعني كثرة الجلبة واللغط المؤدي إلى الشر.
وفي الحياة حركة تنفجر في ساحات التجمع والاحتجاج والمنافسات جرّاء ضغوط لا تُحتمل.
وفي ملاعب الرياضة صدامات تنتج تحطيماً واشتباكات وضحايا، حيث تتواجه جماهير الفرق المتنافسة بكل خلفياتها المتشعبة.
فما هو هذا الشغب العالمي المتنقل؟

الوطن... والملاعب

الوطن أرض وشعب ونظام وثقافة وتراث ومؤسسات، والألعاب الرياضية هي جزء من حركة المجتمع، وجماهيرها جزء من الشعب.
وغالباً ما تنتقل حركة الجماهير إلى داخل الملاعب، فيتحول مجتمع الملاعب إلى مجتمع مصغّر تتشابك فيه تناقضات المجتمع.
ومع انتشار واستفحال ظواهر الشغب وآثارها المخرّبة في المجتمعات وبين الدول أحياناً، تحرك الباحثون الاجتماعيون لرصد هذه الظواهر.

كرة القدم «صورة عن المجتمع»

لعبة الكرة وملاعبها هي الأكبر والأشمل وتجمع في ملاعبها كل شرائح المجتمع، وبطولاتها العالمية تجمع أيضاً شرائح من شعوب العالم أجمع ( 207 بلدان أعضاء في الفيفا مقابل 192 بلداً عضواً في الأمم المتحدة).
ورغم كل ضوابطها بقوانين وأجهزة أمن محلية وعالمية فهي تشهد فلتات دامية في ملاعبها وحولها وتشتد أكثر مع اشتداد الصراعات السياسية العرقية والطائفية، كما حصل بين دولتي هندوراس وسلفادور من حرب طائرات إثر مباراتهما خلال تصفيات مونديال 1970.
وفي نهائي أندية أوروبا بين ليفربول ويوفنتوس على استاد هيسل ــــــ بلجيكا عام 1985 حيث قتل 39 شخصاً وسقط عشرات الجرحى، مروراً بشغب جماعات الهوليغنز داخل ملاعب بريطانيا وخارجها، وصولاً إلى حرائق ملاعب أميركا اللاتينية وإيطاليا...
ودخولاً إلى ملاعب لبنان تبرز مشاهد الشغب في تحطيم مقاعد وهتافات طائفية ــــــ سياسية وشتائم لرموزها...لها نتائجها الوخيمة.
فما الذي يحرك شرائح الشعب الواحد في الملعب الواحد؟
هنا توقف باحثان فرنسيان في علم الاجتماع والسلالات (جان تيني وألان هايو) وقاما بدراسة معمّقة تركزت على ملاعب فرنسا وإيطاليا لتحليل ظواهر الشغب والشغف تحت عنوان (كرة القدم: دراسة لظاهرة الشغف والموالاة).
وصف الباحثان الملعب بصورة عن المجتمع، والمباراة بعرض يجمع أفراد الجمهور وأبطالهم «نجومهم»، وحكام المباراة بالقضاء، وقراراتهم على كل فريق بخيرها وشرها بعدالتها وظلمها.
وتعمق الباحثان في تحليل وشرح أسباب هوس الملايين بمتابعة لاعبين يداعبون الكرة لإيداعها في الشباك، فوجدوا «طقوساً» متكررة تنمو وتترسخ خارج الحياة العصرية بطابعها المادي الغالب.
وركز الباحثان على تعلّق الجمهور بنجوم اللعبة وطرق تشكّل الجماعات على المدرجات ولغتهم الخاصة بعالم اللعبة الموجهة لحثّ لاعبيهم على العطاء، مثل « لن تكونوا وحدكم» لجمهور ليفربول، أو الموجهة إلى خصومهم مثل « سنسحقكم» أو«بالطول بالعرض حنمسّح فيكو الأرض» و«بسيطة شو صار«الفريق» مثل النار».
وهكذا يتفجر الولاء والعداء بهتافات أولاً إلى أشكال أخرى تالياً.

الملعب مكان نادر

ويخلص الباحثان إلى أن الملعب يصبح ساحة مغلقة يتمكن فيها الفرد والجماعة من«التفلّت» من ضوابط الحياة، في العمل والمدرسة والشارع والبيت والمجتمع...
ويصير مكاناً يفرغ فيه الفرد وجماعته الطاقة والرغبات في «التحرر والانطلاق»، ومكاناً لكشف ما يجمع وما يفرّق في المجتمع من أشكال وأسباب التحالفات والخصومات وطرق تشكيلها، ويثبت فيه الفرد هويته وميوله وأحقاده وما لا يقدر على إفلاته خارج المعلب.
ويجد المشجع في«فريقه المفضل» مثالاً ورمزاً يدافع عنه ويتمازج معه في الفوز والخسارة، ويترسخ تجاهه في«تربية عاطفية قوية»، فيصبح الفريق «عائلته الرياضية» ورمزاً من رموز مدينته أو طائفته وعنصراً من عناصر تشكّلها المستمر، ويتجلى ذلك في أندية بأسماء المدن (برشلونة، مدريد، ليفربول، ميونيخ، مانشستر...). وفي المباراة يرى المشجعون تلاقي عنصري الكفاءة والحظ وتصادمهما أحياناً. ويعتبرون طاقم الحكام بالزيّ الأسود( سابقاً) أشبه بطاقم «عدالة» قاصرة منقوصة، بل ظالمة أحياناً (أي طاقم قضاة المحكمة).
وهكذا تتحول المباراة الى سباق ــــــ منافسة مكوناتها البراعة والغش والحظ والظلم، فيتفاعل معها الفرد والجماعة سلباً أو إيجاباً، وتنفجر الحركة أحياناً إلى شغب فردي أو جماعي بما يحمله من شرور.
وتبقى الأسئلة العامة عندنا: من يحّرك الشغب أولاً، ومن يحّرض ومن يضبط؟
إنها ثقافة مجتمع و...نظام بلد.