لطالما ألصقت بالرياضة الاسبانية على مختلف أنواعها صفة "الخاسر الأكبر"، وخصوصاً بعدما خرج ممثلو بلاد الأندلس في مناسبات عدة من دون إحراز النتائج المرجوّة، مخيّبين آمال مشجّعيهم والنقاد الذين توقّعوا دائماً أن يحمل الاسبان راية الأوروبيين في المحافل العالمية بالنظر الى الخليط الفريد من النجوم والمواهب الذين ارتدوا القمصان الحمراء والصفراء.وتنطبق هذه المقولة بامتياز على منتخبات الألعاب الجماعية الأبرز، وهي كرة القدم وكرة السلة اللتان تعدّان أكثر الألعاب شعبية في اسبانيا، من دون نسيان أن هاتين اللعبتين بنسختهما الاسبانية تستقطبان أنظار محبي الرياضة حول العالم، إذ لا يخفى على أحد أن الدوري الاسباني لكرة القدم ونظيره لكرة السلة من أفضل البطولات الوطنية بفضل استقدام النوادي لاعبين رفيعي المستوى من جنسيات مختلفة.
وانطلاقاً من هذه المعادلة، وكنتيجة منطقية لرواسبها الإيجابية، استطاع المنتخب الاسباني للسلّة تغيير سمعة الرياضة الاسبانية وإعادة الاعتبار إليها بإحرازه كأس العالم في اليابان على حساب اليونان بطلة أوروبا (70-47)، التي كانت مرشحة بأشواط عدة للظفر باللقب وخصوصاً بعد إطاحتها منتخب "الأحلام" الأميركي، واضطرار الاسبان الى خوض المباراة في غياب نجمهم الأول باو غاسول بداعي الإصابة.
الا أنه على الرغم من الصعاب، عرفت الإرادة الاسبانية بإصرارها وعزيمتها إيجاد طريق الانتصار، معتمدة على نتاج النهضة الرياضية الفريدة التي صوّرت في شكل "ثورة" عند الصحافة المحلية الداعية الى إحداث انقلاب رياضي لتغيير موازين القوى ودخول دائرة الكبار عبر حصد الذهب دون سواه.
ويمكن اعتبار أن ارتفاع المستوى الاسباني الى القمة في كرة السلة كما هي الحال في كرة القدم (على رغم عدم توفيق منتخبها) وكرة اليد وغيرها من الألعاب الجماعية، يعود في الدرجة الأولى الى المنافسة الضارية بين النوادي الرئيسية أمثال القطبين برشلونة وريال مدريد اللذين ينقلان صراعات الحصول على خدمات أفضل اللاعبين حتى إلى قطاع الناشئين. وبدا لافتاً أن النادي الكاتالوني رمى بشباكه إلى البلدان القريبة، مستقدماً منها حاجاته، إذ تتضمّن مجموعة الناشئين لديه في ألعاب القوى بعض العدّائين والعدّاءات من المغرب المعروف بتخريجه نخبة أبطال "أمّ الألعاب" لسنوات طويلة.
إذا كان لا بد من أن يفرز جذب أرقى النجوم على مختلف الأصعدة أفضل النتائج الممكنة بعد بلوغ الأداء العام أعلى المستويات، في موازاة تبنّي المواهب الشابة في ألعاب أخرى وصقل موهبتها في المدارس المختصة بهدف بلوغ القمة العالمية، وينطبق هذا الأمر على كرة المضرب ورياضة السيارات والدراجات الهوائية والنارية.
وفي الوقت الذي نامت فيه اسبانيا على أمجاد الانتصارات السابقة لكارلوس مويا وخوان كارلوس فيريرو وألبرت كوستا في كرة المضرب، إضافة إلى تتويج السائق المعتزل كارلوس ساينز بطلاً للعالم في الراليات، جاء الفوز السلّوي ليكمل دورة سنوية كاملة من الإنجازات الاسبانية في الميادين المختلفة.
وهذا الأمر ذكّرت به بعض الصحف الرياضية المتخصصة صبيحة اليوم التالي للانتصار الكبير، فمن إحراز منتخب كرة اليد بطولة العالم، مروراً بفوز رافايل نادال ببطولة فرنسا المفتوحة للتنس على ملاعب رولان غاروس، وإيقاف فرناندو ألونسو احتكار "الأسطورة" الألماني ميكايل شوماخر لبطولة العالم للفورمولا 1، وصولاً الى منح أوسكار بيريرو القميص الأصفر الخاص بدورة فرنسا الدولية للدراجات الهوائية (يتوقع منح اللقب الى بيريرو بعد تجريده للأميركي فلويد لانديس إثر تناوله مواد محظورة)، تعيش بلاد "الفلامنغو" سنة مجد رياضي غير مسبوق.
لكن على الرغم من قيمة الإنجاز الذي أشارت اليه صحيفة "ماركا" بكلمة "تاريخي"، داعية قرّاءها وأفراد أسرهم لشراء عددها الخاص بالمناسبة والاحتفاظ به الى الأبد، بقيت الفرحة منقوصة لأن كرة السلة، التي كانت أفضل نتيجة لمنتخبها حلوله في المركز الرابع في مونديال 1982، تعتبر اللعبة الشعبية الثانية في اسبانيا بعد كرة القدم التي حصد منتخبها الخيبة في كل مرة وضعته التوقعات على رأس المرشحين للظفر بالذهب.
وبقدر ما أفرح الفوز بكأس العالم للسلة الاسبان، أعاد اليهم أوجاع الجرح القديم ـ الجديد، الذي ازداد عمقاً بعد خروج رجال القدم بخفّي حنين من مونديال 2006، ما دفع الحارس ايكر كاسياس الى الاعتراف بشعوره بالغيرة من مواطنيه عند بلوغهم الدور نصف النهائي في مونديال السلة، إذ قال "أنا سعيد وفخور بما حقّقه منتخب السلة، وبصراحة أشعر بالغيرة منهم. آمل أن نذهب يوماً ما بعيداً بقدر ما فعله غاسول ورفاقه".
ولم يكن مستغرباً تصريح كاسياس الذي أكد أنه لم يفاجأ بالإحصاءات التي أشارت الى أن منتخب القدم كان دائماً الخيبة الأكبر بالنسبة للرياضة الاسبانية، إذ بلغ طوال تاريخه الطويل الدور نصف النهائي لكأس العالم مرة واحدة عام 1950، ويبقى إنجازه الوحيد فوزه بكأس الأمم الأوروبية على أرضه عام 1964.
وتبدو المفارقة أن المنتخب الاسباني للقدم دخل مونديال ألمانيا متسلحاً بمعنويات عالية بفعل عدم تذوّقه طعم الخسارة في 22 مباراة متتالية، إلا أنه لاقى الخروج المرير من الدور الثاني على يد فرنسا (1-3) على رغم تقديمه عروضاً جيدة في الدور الأول للبطولة، فيما دخل منتخب السلة مونديال اليابان حاملاً في جعبته تسعة انتصارات متتالية، أضاف اليها ثمانية أخرى كانت كفيلة بإسقاطه المقارنة القديمة التي جمعته ورجال المستطيل الأخضر.
وترجم خورخيه غارباخوسا عقب الفوز شعور الشعب الاسباني بأكمله من الخيبات المتكررة لمنتخب القدم بقوله "أهدي هذا الفوز الى اسبانيا وخصوصاً الى منتخب كرة القدم لأن لاعبيه قدّموا دائماً جهوداً جبارة من دون أن يقف الحظ إلى جانبهم".
وأياً يكن الأمر، فإن ما يمكن استنتاجه من هذه الصحوة الرياضية الاسبانية أن بلداً آخر نصّب نفسه مرجعاً في عالم الألعاب، ولم يبق أمام المنافسين إلا إتقان فنون مصارعة الثيران لإيجاد الحلول القادرة على إيقاف الغزو الأندلسي الآتي لحصد المعادن النفيسة من الميادين العالمية.