منذ تلك الليلة المأسوية التي صُدمت فيها فرنسا بهدف المهاجم البلغاري إميل كوستادينوف الذي حرمها التأهل إلى نهائيات كأس العالم 1994، كانت الدروس والعِبَر كثيرة، ولا يزال المنتخب الفرنسي يستفيد منها حتى اليوم، بل لا مغالاة في القول إن ما وصل إليه «الديوك» في أيامنا هذه يعود سببه إلى تلك الصدمة.المتابعون عن كثب للمنتخب الفرنسي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، يرون في كل مواجهة مع بلغاريا سبباً للتفاؤل، إذ إن طعنة كوستادينوف في تصفيات 1993 غيّرت مجرى تاريخ فرنسا كروياً. فمنذ تلك اللحظة قرر الاتحاد الفرنسي اتباع نهجٍ مختلف، فتخلى عن المدرب الذي وصف بالقاتل جيرار هوييه، ووضع في منصب المدير الفني مساعده الأكاديمي إيميه جاكيه.

هذا الرجل الذي كان من المفترض أن يكون مدرباً مؤقتاً استطاع أن يقنع القيّمين بأن فرنسا يمكنها النهوض بأسرع من المتوقع في حال الاقتناع بأفكاره التي وجدها كثيرون متطرفة.
جاكيه ذهب بجرأة كبيرة إلى إنهاء عهد ذاك «الجيل الفاشل» الذي بخّر حلم المونديال الأميركي، فاختف سريعاً من التشكيلة الفرنسية نجوم مثل إيريك كانتونا ودافيد جينولا وجان بيار بابان، وحضرت أسماء جديدة رأى فيها المدرب بذوراً لجيلٍ جديد، فكان هذا الجيل ذهبياً، وخالف توقعات الكثيرين في الداخل، الذين رأوا أن الإحراج سيكون في انتظار منتخبهم عند استضافته لكأس العالم 1998. لكن زين الدين زيدان وزملاءه سطّروا ملحمة تاريخية في النهائي أمام البرازيل، ودخلوا تاريخ المجد الكروي.
فلسفة جاكيه كانت بسيطة، وهي البحث عن مواهب جديدة يمكنها نقل الكرة الفرنسية إلى مستوى جديد، وهو الأمر الذي حدث بالفعل، إذ اجتاحت هذه المواهب أبرز الأندية الأوروبية، وفرضت نفسها بين أكبر نجوم العالم، لتصبح فرنسا مدرسة ومرجعاً في عملية البناء وتحقيق الألقاب الكبيرة.

طعنة كوستادينوف
في تصفيات 1993 غيّرت
مجرى تاريخ فرنسا كروياً


الفرنسيون كانوا يعلمون أنه مع رحيل جاكيه ستتغير الأمور، وخصوصاً أنه لم يلجأ أحد إلى إطلاق عملية بناء مشابهة لجيل يرث أبطال العالم وأوروبا، فكان الخروج المخزي من مونديال 2002، وهي المسألة التي أيقظت الفرنسيين مجدداً من سُباتهم، فشرعوا في دعم كل الأندية التي تهتم بأكاديمياتها، ليطلّ حالياً جيل من المواهب التي لا يمكن منتخبَ فرنسا استيعابها كلها لكثرتها.
ومع هذا الجيل، تُعَدّ فرنسا مرشحة للفوز باللقب العالمي في الصيف المقبل، فلا يبدو أن المدرب ديدييه ديشان يتأثر بغياب أي لاعب، إذ لديه أكثر من بديلين لكل مركز. والأهم أن قراءة التشكيلة الحالية تسقط ذاك الهوس الذي ساد في الصحافة الفرنسية لسنوات طويلة، التي بحثت عن زيدان جديد أو عن نجمٍ على صورة أولئك النجوم الذين جعلوا البلاد تحلم دائماً بالذهب ولا شيء سواه.
في منتخب فرنسا اليوم من هو على شاكلة الحارس فابيان بارتيز، أي المتألق هوغو لوريس. وهناك مدافعون لا يقلون شأناً عن مارسيل دوسايي ولوران بلان، مثل رافايل فاران وصامويل أومتيتي. وكذلك لاعب وسط يشبه باتريك فييرا بالقيمة الفنية، أي بول بوغبا (يغيب عن مباراة الليلة بسبب الإصابة)، وجناحان موهوبان مثل تييري هنري وروبير بيريس، أي كيليان مبابي وعثمان ديمبيلي (مصاب أيضاً)، وهداف قناص مثل دافيد تريزيغيه، أي أنطوان غريزمان...
من هنا، يمكن اعتبار أن فرنسا ستملك التشكيلة الأكثر توازناً بين كل المنتخبات التي ستصل إلى روسيا في صيف 2018، إذ لكل نجمٍ أساسي بديل لا يقلّ عنه شأناً. والأهم أن الطابع الشاب يغلب على هذه التشكيلة وسط جوع هؤلاء الشبان لتحقيق شيء عظيم لبلادهم، وخصوصاً أن الهالة التي أُحيطت بهم في العامين الأخيرين كبيرة جداً، إذ وُصفت تشكيلة ديشان بأنها تضم كمّاً من المواهب لم تعرفه فرنسا طوال تاريخها، الذي لا بدّ أن يذكر كوستادينوف بالخير قبل الشر.