يقف رجلٌ أربعيني يحمل على كتفيه فتاة صغيرة، إلى جانب امرأة أصغر منه بسنوات قليلة، تُمسك بيدها ولداً يبدو في العاشرة من عمره، يلفُّ على رأسه عصبةً نبيذية اللون، ويلتف يميناً ويساراً بسرعة كبيرة، قبل أن يرفع رأسه نحو السماء، ويأخذ نفساً طويلاً. عائلةٌ من أربعة أشخاص، محاطين بمئات من الناس، ينتظرون دورهم أمام حاجز الجيش في مدينة كميل شمعون الرياضية، الفاصل بينهم وبين الملعب، الذي يحتضن مباراة فريقهم.بعد انتظار ربع ساعة تحت شمس بيروت، تُصبح العائلة بعيدة نحو مترين عن الحاجز. يصرخ الوالد: «معنا ولاد يا وطن». ويصرخ معه من حوله. يقطع برفقة زوجته وولديه الحاجز، ويتقدم بخطى تعبة ومتحمسة نحو شباك التذاكر. يعلم أن رحلته الشاقة للدخول إلى الملعب لم تنتهِ بعد. فهناك المئات أمامه ممن يحاولون شراء تذكرة لمشاهدة فريقهم قبل انطلاق صافرة بداية المباراة. يترك عائلته جانباً ويدخل بين الجموع نحو شباكٍ صغير، واحد من ثلاثة أو أربعة، لـ«قطف» التذاكر. وبعد دقائق، يخرج منتصراً، حاملاً معه أربعة أوراق هشة. لن يدخل الملعب الآن، فهناك محطة أخيرة بعد. يصل إلى باب الملعب حيث يتواجد نحو عشرة عناصر من الجيش، ومئات المشجعين، حاملين الأوراق فوق رؤوسهم، خوفاً من تمزقها بسبب الازدحام. يقولها مرة أخرى: «معنا ولاد يا وطن». ومن جديد، يردد الناس معه. ليس «شفقة» عليه فحسب، بل لأنهم يحاولون الضغط على القوى الأمنية، علّهم يبتعدون عن الأبواب، أو بالأحرى، الباب. الباب المفتوح من بين أبواب عدة مغلقة.
أخيراً يتنفس هو عائلته الصعداء. بات الآن حراً باختيار المقاعد في الزاوية الأفضل له، بعيداً عن زحمة المشجعين في وسط المدرج. تُخرج الزوجة أوراقاً من كيس أسود كانت تحمله، فتشه أحد عناصر القوى الأمنية، كأنه يبحث عن قنبلة، وأخرج منه عبوة مياه كبيرة. «ممنوع المي»، يقول للجميع. يأخذ الزوج الأوراق ويمسح فيها مقاعد الملعب المتسخة. ثم يجلس. يجلس مبتسماً، بعد هذه المعاناة، يبتسم. هو وصل أخيراً إلى المدرجات، ليشاهد مع عائلته فريقه المفضّل، هذا الذي يخفف عنه ضغوط الحياة، ويسعده لساعتين في أسبوع شاق.
أثناء المباراة تُخرج الزوجة من الكيس الأسود «بِزر» وفستق و«شيبس»، وتطلب من ابنها المتحمّس الجلوس ليأكل. بعد «النقرشة»، وانتهاء الشوط الأول، لا بدَّ للعائلة أن تروي عطشها. يخرج الرجل من الملعب حتى يصل إلى موقف السيارات، الذي بات منفصلاً عن المدينة الرياضية، لـ«يقتنص» عبوتي مياه من أحد الباعة الجوالين، ويعود إلى عائلته. هذه المرة لم يوقفه أحد، فالقوى الأمنية تركت الحاجز والأبواب ودخلت إلى أرض الملعب. خلال الشوط الثاني تبدأ الفتاة الصغيرة بالبكاء. تهمس الأم في أذن الأب كلاماً أزعجه. المشهد واضحٌ جداً. الفتاة تريد دخول الحمام، والوالدين على علمٍ أن حال الحمامات في الملعب سيئ جداً. أساساً، لم يعد هناك شيءٌ يشير إلى أن هناك حماماً. الغرفة الكبيرة باتت خربة متروكة منذ سنوات، يسكنها الغبار والحجارة المكسورة. انتهت المباراة، وعادت العائلة إلى الشارع بسرعة قياسية نسبة للوقت الذي استغرقته للدخول إلى الملعب. هذه العائلة، هي واحدة من آلاف العائلات، وعشرات آلاف المشجعين، الذين يعيشون هذه التجربة كل أسبوع. في كل صباح مباراة، قبل خروجهم من المنزل، يحتسبون الوقت الذي سيستغرقونه للوصول إلى الملعب، و«البهدلة» التي سيعيشونها، ويفكرون جلياً بمشاهدة المباراة على التلفاز، قبل أن يُجبرهم عشقهم للعبة ولفريقهم على تحمّل «الذُل» في الملاعب، والتعايش مع فكرة غياب التنظيم والإدارة من قبل المسؤولين عن اللعبة.
كثيرون اعتزلوا الدخول إلى الملعب برفقة الجماهير. هجروا الملاعب، لعدم تمكنهم من احتمال المعاملة «غير الإنسانية» للجمهور. هؤلاء الذين بدأت اللعبة بهم وهي لأجلهم، ومن دونهم تموت وتنتهي. هؤلاء، الذين يجب على «المسؤولين» أن يساعدوهم للحفاظ على اللعبة. هذه العائلة، كغيرها، بإمكانها أن تدفع المبلغ عينه الذي تدفعه على شباك التذاكر، في مطعم، حيث يتناولون غداءهم ويشاهدون المباراة عبر الشاشة الصغيرة «معززين ومكرّمين». هؤلاء هم نبض اللعبة. ويستحقون الاحترام.


غياب الإدارة والتنظيم
قد يعتقد البعض أن تنظيم المباريات في لبنان بشكلٍ محترف صعب التحقيق، في ظل فوضى وعدم تخطيط من قبل اتحاد اللعبة لإدارة الملاعب والتعاون مع «حاكمي» المنشآت الرياضية والقوى الأمنية. ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية كان شاهداً على الإدارة التنظيمية المحترفة في العام الماضي، حين استضاف مباراة «كلاسيكو الأساطير» بين نجوم سابقين لناديي برشلونة وريال مدريد. حينها، ذهب دور إدارة الحدث لشركة خاصة، توّلت بنفسها التواصل مع القوى الأمنية، التي حضرت بأعداد كبيرة ومنظّمة، وعملت على تنظيف محيط الملعب والمدرجات والغرف الداخلية، وتواصلت مع شركات تؤمّن المأكولات السريعة، التي انتشرت في الباحة الخارجية للملعب، وتوزّعت على مدرجات المنصة الرئيسية. كما طرحت تذاكر المباريات للبيع قبل أسابيع، وصولاً إلى وضع ممرات مستحدثة لدخول الجمهور إلى الملعب، بوجود موظفين غير مرتبطين بقطاع أمن الدولة. صحيح أن الحدث كان استثنائياً، إلا أنه دليل على قدرتنا على تنظيم المباريات بأفضل طريقة ممكنة. ربما، يجب على اتحاد اللعبة تسليم الشؤون التنظيمية للملاعب والمباريات للقطاع الخاص، أو التعاون معها، لأن الاستمرار في إدارة اللعبة على طريقة «جود بالموجود»، لن يطوّرها، فالـ«الموجود»، «مفقود».