ليست الواقعة الأولى ولن تكون الأخيرة، فما حصل في مباراة الحكمة وهومنتمن بات مشهداً كلاسيكياً في كرة السلة اللبنانية، التي على ما يبدو تحصل على تغطية لقيام جمهورها بما يحلو له من دون أن يمسّ أحد به. هي اللعبة التي نشأت بالأساس في عصرها الحديث على العصب الطائفي - السياسي، الذي يحاول أن ينزع عنها كل صفات الروح الرياضية، في وقتٍ تعاني فيه رياضة شعبية أخرى هي كرة القدم من داء مشابه!«ممنوع حدا يربح بغزير، ولا حدا». يصرخ مشجع حكماوي خلال مقابلة تلفزيونية كان يجريها مدرب الحكمة فؤاد ابو شقرا. بعدها بلحظات يطلّ أمين عام الاتحاد اللبناني لكرة السلة المحامي شربل رزق في مقابلة أخرى معلناً تعرّض ثلاثة موظفين من الاتحاد لإصابات خلال الإشكال الذي حصل في ملعب غزير خلال المباراة الثانية بين الحكمة وضيفه هومنتمن. تصريحان يوضحان صورة ما حصل، فالأول يعكس أن المشكلة لم تنتهِ لأنه بدا واضحاً بأن هومنتمن كان في طريقه إلى انتصارٍ ثانٍ على مضيفه. اما الثاني فيعلن عن وجود ضحايا، لكن رغم ذلك ورغم اجتياح الجمهور للملعب واصطدام القوى الأمنية به، استُكملت المباراة على نحوٍ طبيعي، وكأن شيئاً لم يكن!
هل كل هذا المشهد طبيعي؟ بالتأكيد ليس طبيعياً، لكنه بلا شك أصبح كلاسيكياً في كرة السلة اللبنانية، إذ يكاد يكون نسخة كربونية عن ما يحصل في ملاعبٍ عدة موسمياً، وملعب غزير هو أحدها.
المشهد ليس طبيعياً بالنسبة الى كل متابعٍ لكرة السلة إذا ما استعاد مشاهد مئات مباريات الدوري الأميركي الشمالي للمحترفين أو الدوري الأوروبي (يورو ليغ) هذا الموسم أو في مواسم سابقة. مباريات يتخطى عدد الحضور فيها الـ 10 آلاف على أقل تقدير في بعض ملاعبها، لكن «ضربة كف» لا تحصل. احتكاكات ومناوشات بين اللاعبين تنتهي بقرارات تحكيمية حازمة من دون أن يتدخل أي مشجع ليقفز إلى أرض الملعب في محاولةٍ لنصرة لاعبي فريقه. هنا في ملاعبنا، لا يمانع بعض اللاعبين حتى في الصعود إلى المنصة أو المدرجات للوصول إلى هذا المشجع أو ذاك. هو مشهد مأسوي للعبة اعتادت أن تترك مشاهد عنيفة وتجرّ جيلاً جديداً إلى عنفٍ غير مبرر ليستكمل المسلسل الموسمي من دون أي توقف.

تشجيع الأحزاب أوّلاً
ليس مهماً من هو السبب في الإشكال الأخير، وليس مهماً اسم الملعب الذي حصل فيه الإشكال، فالسبب الأساسي لما يحصل هو عدم تقبّل الخسارة عند بعض جماهير الفرق، وخصوصاً تلك التي تعتبر بأنها في مهمة أبعد من تشجيع فريق سلوي ودفعه نحو الانتصارات. والصورة الظاهرة في «فاينال فور» البطولة تعطي سبباً واضحاً حول هذا التوصيف، إذ بعيداً من فريق بيروت الذي لا ينتمي إلى أي طرفٍ سياسي، تطّل أعلام القوات اللبنانية في ملعب غزير، وأعلام التيار الوطني الحرّ في ملعب الشانفيل في ديك المحدي، ولم يغب أيضاً علم تيار المستقبل عن مباريات الرياضي في قاعة صائب سلام في المنارة، ومن دون أن ننسى تلك الأعلام التي ترفع، ما تلبث أن تستهدف فئات أخرى بطريقة عنصرية. وبغض النظر إذا وجدت التحالفات من عدمها بين التيارات السياسية - السلوية، فإنه لا يمكن نسيان أن اللعبة بالأساس انفجرت شعبيتها الكبيرة على خلفية خلق شعورٍ «طائفي» تنافسي بين الرياضي والحكمة تحديداً في منتصف تسعينيات القرن الماضي، إذ حتى الصفعة الشهيرة التي وجهها ايلي (مشنتف) لحسين (توبة) كانت مفيدة بالنسبة إلى «مسوّقي» اللعبة وقتذاك. شعورٌ ذاب مع اتساع رقعة المنافسة بين الفرق، لكن مع ارتفاع حدّتها بات من الصعب على غالبية الجماهير تقبل الخسارة لا بل إن الكره أصبحت أسهمه في اتجاهات مختلفة عند كل واحدٍ منها. هكذا، تراكمت المشاكل وانتهت بطولات أمام مدرجات خالية أكثر من مرّة، وعرف كثيرون مسبقاً أن بعض المحطات لن تمرّ على خير، ورغم ذلك بقيت الأمور على حالها: ممنوع المسّ بجمهور كرة السلة. صحيح أن إبعاد الجمهور عن اللعبة سيشكل ضربةً قاضية لها، وهي التي تترنح أصلاً جراء المشكلات الاتحادية ومشكلات الاندية والمشكلات المالية التي تعاني منها على مختلف الصعد، لكن أن تصل الأمور الى حدّ أن يصبح كل من يوجد في الملعب مهدداً بالخطر، فهو أمر غير مقبول.

القرار عند السياسيين
لكن لماذا ليس هناك قرارٌ بمعاقبة الجمهور أو تهديده بالإبعاد على غرار ما يحصل في كرة القدم؟ مرجع اتحادي سابق يفسّر الامر ببساطة بأنه كما يحضر القرار السياسي بإبعاد جمهور الفوتبول عن المدرجات، فإن قراراً سياسياً يبقي جمهور الباسكت في منأى عن أي عقاب. ويسهب قائلاً: «لنحصي سويّاً عدد السياسيين الذين حضروا الى الملاعب أخيراً فنتأكد انهم يرون في المدرجات جزءاً من مهرجاناتهم السياسية. هم يريدون الجمهور، ويريدون الأعلام الحزبية أيضاً في المدرجات، وخصوصاً في زمن الانتخابات النيابية». كلامٌ يبدو منطقياً، وخصوصاً عندما يكون كل محور المفاوضات لتأمين حضور الجمهور في المباراة النهائية لكأس لبنان لكرة القدم، هو حول محاولة تفادي أي صدامٍ غير مستحب قبل أسبوعٍ على الانتخابات. إذاً السياسة تدخل هنا أيضاً لتظلم لعبةً اتُهمت دائماً بأنها تشكل حالة شاذة في الرياضة اللبنانية بسبب جمهورها المشاغب، مقابل اعتبار كرة السلة «كلاس» وبريئة من أي تهمة من هذا النوع.
سقط جمهور كرة السلة وانتقل الامتحان إلى جمهور كرة القدم، فإما النجاح أو فلترقد رياضتنا بسلام


وكلامٌ يبدو منطقياً اكثر عندما يكون هناك شعور بأن هناك قراراً لتأمين وجود قوى أمنية في ملاعب السلة مقابل وضع عقبات لحضورها الى ملاعب كرة القدم بذريعة أنه لا يمكنها تأمين مبارياتها لسببٍ أو لآخر رغم أن هذا الأمر هو من ضمن واجباتها بحكم وجود مواطنين في حدثٍ عام. وهنا يطلّ السؤال المطروح: هل أصحاب القرار الذين يرمون كلام منع الجمهور من دخول ملاعب الفوتبول تحت شعارات أمنية يتابعون مباريات كرة السلة وما يحصل في ملاعبها أيضاً؟ هذه دعوة لإصلاح اللعبتين على أي حال، وليس لتفضيل واحدة على أخرى. دعوة لإنقاذ الرياضة من السياسة.
الأكيد أن النظرة الى اللعبتين المتنافستين على الشعبية هي بعينٍ واحدة في هذا الإطار، فملاعب كرة القدم تبدو احتمالات ضبطها أكثر ولو أن جمهور النجمة الذي حضر أخيراً الى مباريات فريقه يمكنه أن يملأ 4 أو 5 ملاعب مثل ملعب غزير، الذي حاله كحال كل ملاعب كرة السلة أمنياً، أي إن مسألة الاحتكاك باللاعبين أو أيًّاً كان في الملعب تبدو سهلة في ظل عدم وجود أي فاصل بين المدرجات والملعب نفسه. هذا بعكس الملاعب الخضراء التي بغالبيتها تبدو محاصرة بأسيجة وتبعد مسافة ليست بقصيرة عن أرضية الميدان. قد لا يكون كل هذا الكلام قاعدة، لكن هناك قواعد باتت راسخة في المشهد الجماهيري للعبتين الذي يخرج أحياناً عن وضعه الطبيعي ويدخل في لا وعي الجيل القادم الذي يتابع لساعات عبر شاشة التلفزيون مشاهد بشعة جداً قد تجرّه الى تكرارها يوماً ما لعدم وجود أحياناً حسيب أو رقيب على المخالفين الذين يفلتون غالباً من العقاب.
جمهور كرة السلة رسب مرة جديدة، وجمهور كرة القدم أمام الامتحان بعد ظهر الاحد في المباراة النهائية لكأس لبنان بين النجمة والعهد، فإما يكرم، أو يهان!
--
الاتحاد في الزاوية؟
ربما هي من المرات القليلة في المواسم الأخيرة التي يمكن فيها إنصاف الاتحاد اللبناني لكرة السلة حول ما يحصل من أحداث في الملاعب، إذ رغم رغبته الكبيرة في إنهاء البطولة بأفضل صورة اي بحضور الجمهور للمباريات بغض النظر عمّا يمكن ان يحصل من أحداث، فإنه كان قد لجأ الى كل الاجراءات القانونية لوقف الاشكالات في الملاعب.
والعودة الى بداية الموسم الحالي تؤكد على هذا الكلام، إذ لم يتوانَ الاتحاد في معاقبة الاندية وحسم وحدات منها اسبوعاً بعد آخر، وخصوصاً بعدما اتسعت رقعة الاشكالات وامتدت حتى الى بطولة السيدات. كما يحسب لأمين عام الاتحاد شربل رزق ورئيس لجنة الملاعب أكرم الحلبي دورهما في العمل على تهدئة الوضع عقب الاشكال في غزير والعمل على ضمان استكمال المباراة في الملعب، رغم ان الاحداث التي اعقبتها لا شك في انها لم تكن اقل حجماً من تلك التي سبقتها في تلك الامسية.
باختصار الاتحاد يقف «محشوراً» في الزاوية، اذ يعلم الاتحاديون بأنه من الضروري ألا تخسر البطولة المزيد من رصيدها، فإبعاد الجمهور من الملاعب سيقلّص من حجم قيمتها التسويقية، وهم الذين يعجزون حالياً عن تأمين الحجم الاكبر من الموارد منها، والدليل المعاناة التي عرفوها لإيجاد راعٍ يحمل اسمها.