تقول القصة إن هناك أحد المشجعين الكولومبيين القدامى، كان يجلس مع أبنائه على عشاء ليلة الميلاد، وبعد الصلاة قبل الطعام، قال لهم: «يا أولاد.. أنا ليبرالي ومشجع لـ «أميركا دو كالي»، لا أطلب منكم أن تكونوا ليبراليين أو أن تشجعوا أميركا، الأمر يعود إليكم». بدا أنه لا يقول ما في نفسه حقاً، أو يتمنى ما لا يقول، فأجابه صغاره بحزمٍ: «أبي، اليوم عيد الميلاد وكلنا سنتبعك لأنك أعطيتنا الحياة». وكرة القدم في كولومبيا كالحياة.الحياة في أميركا اللاتينية عبارة عن أمزجة وخلفيات، تتنوع بين رمزية المسيح وصلبه مخلصاً للآخرين، وثورية الراية الحمراء، إضافة إلى زعماء المافيا والمخدرات. لم تخرج الشخصية اللاتينية طوال النصف قرن الماضي من «صورة» هذا الثالوث المقدس. الثالوث الذي في هذه الصورة يمثّل الشخصية اللاتينية التي لا نعرفها خارج هذه الصورة. كولومبيا كانت من أكثر الدول اللاتينية تأثراً بالحرب الباردة. لطالما كانت «الحكومة» ضدّ الشيوعية، وكان يلقى ذلك معارضة كبيرة.
خلال السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، وبينما كان المواطن الكولومبي يذهب إلى الكنيسة في أيام الأحاد مردداً التراتيل الدينية، خاشعاً أمام تمثال العذراء وجسد المسيح معلقاً على الصليب، حيث يقف داعياً إياه أن يحفظ عائلته ويبقي الحب بينهم، كان يعود إلى المنزل ولا يصل. قد يلقى حتفه بسبب صراع على المخدرات. ومن إحدى المافيات، التي يقف زعيمها خاشعاً أمام نفس تمثال العذراء وجسد المسيح ذاته. لكن في الخارج كان على أحدهما أن يتحد مع الغراب الذي يقف على أسوار الكنيسة، كان على أحدهما أن يكون قاتلاً، قبل أن يصبح الآخر مقتولاً.
هنا كولومبيا، حيثُ لا ملائكة ولا شياطين. يقال إن أقل الأوقات التي سقط فيها ضحايا، هي الأوقات التي لعبَ فيها المنتخب الكولومبي مباريات كأس العالم 1994. منتخب المدرب فرانشيسكو ماتورانا، أو ما عرف بعد ذلك بمنتخب الآمال الكبرى والخيبات الحزينة. بعد نصف قرن ما زال الرب ما زال يبارك أرض كولومبيا ومنتخبها. هكذا يصيغ مجتمع على حافة الجنون حكاياته، هكذا تأخذ الحكايات الكروية في كولومبيا لمحتها الملحمية، محاطة بمباركة الرب وروح الثورة وأموال تجارة المخدرات. من هنا يسافر «رودريغز» ورفاقه إلى كأس العالم 2018 في روسيا، حيثُ الأرض الخصبة التي خرجت منها ثورية النزاع الكولومبي، أرض الاتحاد السوفيتي قديماً، حيث الراية الحمراء محلقة فوق رؤوس الجميع. لكن قبل أن تقلع طائرة المنتخب الكولومبي، هناك الكثير من الحكايات تستحق أن تروى.

«المسيح قام، حقاً قام»
مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت الكرة تتخذ مكانتها الأسطورية كلعبة الأحلام الكبرى والأحداث المثيرة. بدا العالم كملهى ليلي مليء بالألوان، لكن ألوان مدرجات مشجعي المنتخب الكولومبي أمر مختلف، حيثُ يمكن رؤية الأصفر والأحمر زاهيين من المدرجات، بجانب المشجع الكولومبي الأشهر آنذاك، معلقاً على حافة المدرج، رافعاً يديه كالمسيح على صليبه، مطالباً الجماهير بالتشجيع حتى النهاية.
المشجع الذي آتى من مدينة بارانكيا، التي تقع على البحر الكاريبي، في شمال كولومبيا، هو رجل في منتصف الأربيعنيات. يرتدي ملابس طائر «الكَندور» تميمة المنتخب الكولومبي، ويزين وجهه وما يظهر من جسده بألوان المنتخب الكولومبي. دائماً ما يكون موجوداً في المدرجات خلف المنتخب الوطني، حتى أصبح اسمه معروفاً للناس بـ «الكولي». صار رمزاً في تشجيع المنتخب، مهمته في الحياة هي مساعدة كولومبيا. وقد بدأ الأمر معه حِينَ أظهر الأمر أنه دعوة دينية، محولاً نفسه إلى دليل كولومبي على غرار «الكَندور»، لدرجة أن اللاعبين كانوا يجمعون له التبرعات من أجل أن يذهب خلف الفريق إلى كل مكان يلعب فيه.
الحدث الأشهر في تاريخ «الكولي» كان عندما واجهت كولومبيا ألمانيا الغربية في كأس العالم 1990


الحدث الأشهر في تاريخ «الكولي» كان عندما واجه المنتخب الكولومبي منتخب ألمانيا الغربية في كأس العالم 1990 في إيطاليا. تقدم المنتخب الألماني مبكراً بالهدف الأول، وبدأت عزيمة الجماهير الكولومبية تخفت، حتى وقف الكولي على حافة المدرج، حاجباً قرص الشمس عن العيون، رافعاً يديه، مبشراً الجمهور بهدف كولومبي. بدا المشهد أسطورياً، حتى أن أحدهم صاح عالياً: «المسيح قام».
بعد دقائق أحرز المنتخب الكولومبي هدف التعادل. تطاير مشجعو المنتخب الكولومبي من الفرحة، وفي تلك اللحظة شعرَ الكولي أنه يسقط في الفراغ. هذا ليس تعبيراً مجازياً عن الفرحة، لكنه فعلاً سقط من حافة المدرج بعد تدافع الجماهير من الفرحة. حاول الكولي أن يحرك يديه والجناحات التي يرتديها على كتفيه. لقد ظنَ أنه طائر الكَندور حقاً، لكنه لم يسقط بسبب ربط خاصرته بحبل معلقاً على أحد قوائم المدرج. في اللحظة التي انتبهت فيها الجماهير لسقوط الكولي من حافة المدرج، كان طائراً ومعلقاً. ومثلما سار المسيح على البحيرة، طار الكولي من المدرج. احتفت الجماهير به ورفعته على الأعناق، وصاح أحدهم مرة أخرى بصوتٍ مرتفع: «المسيح قام».

منتخب الآمال الضائعة
كانت كولومبيا تدخل التسعينيات بآلاف القتلى والمهجرين. الحرب كانت نجم التسعينيات. في الغابات قوات الجيش والشرطة تخوض حرباً مشتعلة مع الشيوعيين. كانت البلاد تبدو كساحة حرب كبيرة. حلفاء اليوم هم أعداء الغد، لا قوانين تحكم الأمر، حتى أن الحكومة الكولومبية كانت تتعاون مع الاستخبارات الأميركية. الأصح: تطبق ما تريده الاستخبارات الأميركية.
كان أشهر زعماء المخدرات بابلو إسكوبار مسجوناً في سجن بناه هو، ووضع أحد شروطه ألا تقترب قوات الشرطة منه على بعد 3 كيلومترات. كان مسجوناً في مكانٍ يشبه الفنادق مكتملة النجوم. سجن وضعَ في ساحته ملعب كرة قدم. في الوقت نفسه كان المنتخب الكولومبي يبدأ مبارايات التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1994 في ألمانيا. هربَ إسكوبار من السجن الذي بناه بنفسه، وصعدَ المنتخب الكولومبي بعدما فاز في مباراته الأخيرة على المنتخب الأرجنتيني في ملعبه هناك في بوينس آيرس، لم يكن فوزاً عادياً. لقد فاز المنتخب الكولومبي بخمسة أهداف مقابل لا شيء، كان انتصاراً تاريخياً. تصاعدت آمال الجماهير بعد تصريح بيليه، الذي رشح فيه المنتخب الكولومبي للفوز بمونديال 1994. كُل المؤشرات كانت تضع كولومبيا على رأس طاولة كرة القدم في العالم آنذاك. كان جيلاً ذهبياً. سافر منتخب المدرب فرانشيسكو ماتورانا، مصحوباً بالآمال الكبرى، وبقيادة الثنائي كارلوس فالديراما وفاوستينو أسبريا.
بعد توقع بيليه، تدافع على مكاتب المراهنات آلاف من المواطنين. راحوا يراهنون بكل ما يملكون على فوز المنتخب الوطني بكأس العالم، حتى أن زعماء المخدرات في كولومبيا شاركوا أيضاً في تلك المراهنات بأموال طائلة. في المباراة الأولى للمنتخب الكولومبي أمام المنتخب الروماني، كانت الأحلام والآمال وصلت إلى ذروتها، حتى استيقظ الجميع على هزيمة المنتخب الكولومبي بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد.
دخلَ المدرب ماتورانا ومنتخبه المباراة الثانية أمام منتخب أميركا. وهم على بعد خطوة من أن يتحول الحلم الجميل إلى كابوس، خاصة بعد التهديدات التي وصلت إلى اللاعبين في فندق إقامتهم، كانت رسالة زعماء المخدرات للاعبين واضحة: «إما الذهب أو الرصاص». بدأت المباراة مع ترقب الجميع. أميركا تلعب على أرضها، ونظام أميركا الذي لا يحب الشعب الكولومبي. بعد مرور 34 دقيقة من زمن الشوط الأول، بدأ المنتخب الأميركي بهجمة من كرة عرضية أرضية، حاول المدافع الكولومبي أندرياس إسكوبار تشتيتها. بدلاً من أن يخرجها من الملعب، أسكنها شباك فريقه. حاول المنتخب الكولومبي أن يعود بالنتيجة وتعادل، لكن المباراة انتهت بفوز المنتخب الأميركي بهدفين مقابل هدف واحد. استيقظت الجماهير الكولومبية على كابوس ثقيل بخروج منتخبهم من الدور الأول في كأس العالم، رغم فوز كولومبيا في آخر مباراة سويسرا، إلا أن الحلم الكولومبي والآمال الكبرى قد انتهت، بقدم آندرياس إسكوبار، ولا أحد يمكنه أن يقنع الكولومبيين بغير ذلك، رغم أن ذلك لم يكن صحيحاً.
عاد المنتخب الوطني إلى كولومبيا منكساً رأسه، وخاصة المدافع إسكوبار، الذي ذهبَ لكأس العالم وهو نجم إعلانات. كان ميلان يريده. ميلان التسعينيات، الذي كان يلعب في دفاعه أفضل مدافعين في التاريخ، فرانكو باريزي وباولو مالديني. إلا أنه قد عاد مكروهاً إلى كولومبيا. لن يذهب اسكوبار إلى ميلان في حياته. لن يذهب إلى أي مكان لأنه مات. في أحد الأيام بعد عودة المنتخب بعشرة أيام، خرج آندرياس إسكوبار برفقة أصدقائه إلى أحد المطاعم، وفي أثناء سهرتهم تعرض اللاعب إلى السباب والاتهامات بأنه السبب في خروج المنتخب من المونديال. تحرك إسكوبار سريعاً نحو سيارته، وأثناء خروجه من المطعم، طارده الذين راهنوا عليه وخسروا. قبل أن ينجو، أخرج واحد منهم مسدسه وأطلق عليه 6 رصاصات بلا توقف. إما الذهب وإما الرصاص، هذه هي كولومبيا.