على مدى السنوات الأربع المنصرمة، نجحت روسيا في استضافة أكثر من عرس رياضي عالمي، وكانت تلك المنافسات مقدمة لاستضافة العرس الأكبر، ألا وهو كأس العالم لكرة القدم. في شتاء عام 2014 استضافت روسيا دورة الألعاب الأولمبيّة الشتويّة في مدينة سوتشي على البحر الأسود، وكلّفت تلك الدورة 51 مليار دولار، ونجحت بجميع المقاييس. وفي العام الماضي (2017) استضافت أرض القياصرة كأس القارات بكرة القدم والتي انتهت لمصلحة المنتخب الألماني. نجحت روسيا في اختبار التنظيم، فالملاعب التي أنشئت هي من الأفضل على مستوى أوروبا والعالم، كما منشآت التدريب. وكان النجاح الأكبر الذي تحدّث عنه الجميع، هو ببناء شبكة مواصلات مميّزة، وجعل التنقل في كأس القارات شبه مجاني داخل المدينة الواحدة، بعكس ما جرى في البرازيل خلال كأس العالم، حيث لم تقدر الحكومة على تأمين شبكة مواصلات مميّزة للمشجعين.نجاح أولمبياد سوتشي أعطى روسيا دفعة كبيرة، كما عرّف العالم على واحدة من أجمل المدن الروسية على البحر الأسود، وجاء بعده كأس القارات ليعرّف العالم أيضاً بأربع مدن روسيّة رئيسة، وهي: العاصمة موسكو، إضافة إلى سان بطرسبورغ وقازان وسوتشي، وهي المدن التي استضافت البطولة، أمّا الآن فتنظيم كأس العالم ستتشارك فيه 11 مدينة روسيّة، أولاها العاصمة موسكو، إضافة إلى كالينينغراد ـــ سان بطرسبورغ ـــ قازان ـــ نيجني نوفغورود ـــ سوتشي ـــ فولغوغراد ـــ سامارا ـــ إيكاترينبيرغ ـــ روستوف على الدون ـــ كالينينغراد ـــ سارانسك. سيتمكن العالم من رؤية روسيا بتاريخها العريق، وواقعها العمراني المتقدم، وشبكات المواصلات والبنى التحتية التي تم إنشاؤها في بلاد القياصرة، وهي كلها أمور يتجاهلها الإعلام الغربي، محاولات التصويب على روسيا، واتهامها بشراء الأصوات لضمان نجاح ملفها، أو التشويش على نجاحاتها في بناء المنشآت الحديثة واتهام الحكومة بالفساد.
دائماً ما يستخدم الغرب إعلامه لتشويه صورة بلد ما، وخاصة إذا كان هذا البلد شرقيّاً طموحاً يهدد عنجهية الغرب ومحاولاته المستمرة لإظهار تفوّقه. لعبة الإعلام الغربي فشلت ضد روسيا، ونجحت موسكو في إبهار العالم بالتنظيم المميّز في سوتشي وبعدها في كأس القارات، ووجهت بذلك صفعة للغرب، على رأسه الإعلام الإنكليزي الذي يعتاش على المؤامرات لمصلحة الدولة ومحاولات تشويه صورة الآخرين. لم ييأس الإنكليز من محاولات التصويب على روسيا، كيف يتوقفون وفلاديمير بوتين خطف منهم تنظيم العرس المونديالي؟ وقبل أسابيع على افتتاح المونديال، فتح الإنكليز ملف الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال ووجهوا أصابع الاتهام إلى موسكو بمحاولة اغتياله هو وابنته على الأراضي البريطانيّة. نفى الروس علاقتهم بالأمر، وذهب الإنكليز إلى محاولة تحريض الدول لمنع منتخباتها من المشاركة في كأس العالم، وحين لم تلقَ تجاوباً، خفضت من سقف أحلامها، وأعلنت عدم مشاركتها دبلوماسيّاً في كأس العالم، ودعت باقي الدول إلى هذا الأمر، لكن أحد لم يتجاوب سوى آيسلندا التي لن يحضر قادتها افتتاح كأس العالم. وانتهى الأمر أيضاً بخسارة الإنكليز هذه المعركة أمام الروس. وفي تلك الفترة، قالت وكالة بلومبرغ إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحرز «انتصاراً فلسفياً هائلاً» على الغرب، من خلال إحباط مسعى بريطانيا إلى مقاطعة بطولة كأس العالم لكرة القدم.
انتصاران كبيران لروسيا، الأوّل تمثل في ظهورها بصورة مشرّفة في التنظيم والبناء، والثانية في كسر إرادة بريطانيا وأدواتها الإعلاميّة والسياسيّة لمحاولة تقليب الرأي العام الدوري ضد روسيا خلال فترة كأس العالم. الأمور لم تنته عند هذا الحد، فخرج وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون ليشبّه تنظيم روسيا لكأس العالم «بتنظيم ألمانيا النازية للألعاب الأولمبية عام 1936» بحسب وصفه، داعياً إلى تأجيل كأس العالم 2018 أو سحبها من روسيا، لكن هذا الأمر لم يلقَ آذاناً صاغية من أحد، فيما لجأت أميركا في هذه المرحلة الحساسة إلى إعلان فرض عقوبات اقتصاديّة جديدة على موسكو، وتبادل البلدان عملية سحب دبلوماسيين وطرد آخرين عن أراضيهما. وعلى ضوء هذه الهجمة، اتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسيّة ماريا زاخاروفا بريطانيا والولايات المتحدة بالسعى لمنع بلدها من استضافة نهائيات كأس العالم، معتبرةً أن «هدفهم الرئيسي» هو «حرمان روسيا من استضافة كأس العالم».
تقاطعت المصالح بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، فالأولى فَشِلَ ملفها باستضافة المونديال، فيما الثانية لم تتأهّل أصلاً إلى نهائيات كأس العالم، وبما أنّ الصراع بين البلدين من جهة، وروسيا من جهة أخرى، مفتوح منذ عشرات السنين، ودائماً ما يبدي الغرب خشيته من عودة روسيا إلى الساحة الدوليّة، واستعادة مكانتها التي كانت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، فإنها سعت للتشويش على استضافتها لكأس العالم. في هذا السياق، تدرك كلّ من واشنطن ولندن أنّ أنظار العالم خلال فترة كأس العالم تكون كلّها مصوّبة نحو روسيا، وموسكو نجحت في إبهار العالم بالتنظيم المميّز وإبراز قدراتها الصناعيّة والتجاريّة والخدماتيّة، وإظهار عمقها الحضاري والتاريخ الكبير، وهو الأمر الذي لا يريده الغرب ولا يتمناه، لكنّه حدث رغم عدم رضاه.
حقّقت روسيا انتصاراً كبيراً في السنوات الأربع الماضية وحتى اليوم، منذ أولمبياد 2014، وصولاً إلى كأس العالم، انتصاراً تمثّل بحسن تنظيمها للأحداث الرياضيّة، وجذب أنظار العالم نحوها كبلد يتمتع بمقومات كبيرة، عكس ما كان يصوّره الإعلام الغربي. وقد وجّه الرئيس فلاديمير بوتين صفعة كبير لنظرائه الغربيين الذين راهنوا على فشله، وحاولوا على مدى السنوات التأثير عليه وعلى بلاده، لكن حسابات الغربيين لم تنجح هذه المرّة، وظهر الشرق متفوقاً على الغرب في تنظيمه واستعداده، ولعبة الإعلام لم تحقق أهدافها، فكان نصراً رياضيّاً لروسيا، كما أنه نصر سياسي لإدارة الكرملين، ضد البيت الأبيض والحكومة الإنكليزيّة.
روسيا في ثلاث تظاهرات رياضيّة عالمية قلبت التوقعات، وأزالت الكثير من الأفكار التي زرعها الإعلام الغربي في عقول العالم، ولا شكّ أن رسالة فلاديمير بوتين خلال حفل الافتتاح في العاصمة موسكو، ستحمل رسائل للغرب كما للشرق، أنّ الجميع يستطيع وليس الغرب وحده.