في 1994 عندما أرسل روبرتو باجيو الكرة إلى السماء، سدّدها ضدّ الملل. كان يعترض على الوقت المحدد للمباراة النهائية، وعلى ضرورة وجود رابح وخاسر، في تسعين دقيقة، وبعدها في شوطين اضافيين، وبعد ذلك في ركلات ترجيحية. لا بد من وجود فائز، يقهر فريقاً آخر وشعباً آخر. لكن باجيو أراد أن يطلق صفارة النهاية بنفسه. اختار أن يكون مهزوماً. ليس بيننا من يصدّق كل هذا. انقسمنا إلى رابحين وخاسرين. وكانت إيطاليا في مصاف الخاسرين. وكنّا هنا في لبنان، في 1994، نوشك على الخروج من الحرب، بعيونٍ مرفوعة إلى السماء، كعيون الإيطاليين وهي تتبع كرة باجيو، في طريقها إلى السماء. كنّا خاسرين.ثم رأينا زين الدين زيدان يحمل كأس العالم. وظهر جاك شيراك مجدداً على التلفزيون. ارتفعت أعلام فرنسا فوق أعلام البرازيليين. اختفى رونالدو، بطل طفولاتنا، أو الترجمة الواقعية للكابتن رابح، بطل طفولات التسعينيات الحقيقي. في 1998، هُزِم كتاب التاريخ المدرسي الرسمي في لبنان. ذلك لأننا أحببنا زيدان. وأقنعنا أنفسنا: لنا شيء في هذا العالم. يمكننا الفوز. فزين الدين واحد منّا. يمكنه أن يتجاوز ثلاثة لاعبين دفعةً واحدة، وأن ينطح الكرة برأسه بين قدمي روبرتو كارلوس، وأن يجبر متكبراً كجاك شيراك على التصفيق. يمكنه أن يمسح ــ بهدف واحد ــ جرحاً عميقاً، سببته مجزرة قانا، قبل عامين على حادثة فوز فرنسا بكأس العالم. وهذا ما يتذكره العالم.
ليس لدينا في لبنان الجرأة لكي نحلم باللعب مع الكِبار. نلعب مع بعضنا وضدّ بعضنا. في 2002، كما في السنوات التي سبقَتها، شاهدنا رونالدو وهو ينتقم. الحارس أوليفر كان راح يصرخ. ايطاليا تخرج بعد مؤامرة. الحكام يتعاطفون مع كوريا الجنوبية. السعودية تخسر بنتيجة كبيرة. أحداث تأتي وتذهب. لاعبون يحتفلون بخروجهم من الحاضر، وآخرون يدخلون إلى الماضي بهدوء. كانت كأساً للنسيان. ما نتذكره فعلاً هو الكأس اللاحقة. كيف ارتفعت لامعةً بين يدي فابيو كانافارو، وكيف انحنى زيدان مغادراً. كواحدٍ منا أيضاً، وباسمنا، سدّد نطحته مجدداً، هذه المرة إلى صدر ماتيراتزي. عرفنا لاحقاً أن ماتيراتزي يستحقها، وأن النظام ليس عادلاً. وأننا نحبّ زيدان، ونحبّ إيطاليا أكثر. كرِهنا ماتيراتزي. في 2006، شنّت إسرائيل حرباً جديدة، واستخدمت آلاف الصواريخ والطائرات. محت صورة الكأس، وصورة العالم، من عيوننا. لكننا نهضنا.
بعد أربعة أعوام ذهب العالم إلى أفريقيا، من دون أن يعترف بحقها في الاعتراض. ظهرت اسبانيا، ومعها ظهر جيلُ جديد. بعد 2010، يمكن القول إن كرة القدم صارت رأسمالية تماماً، من دون أن يعني ذلك أنها لم تكن كذلك. ولكننا حوصرنا تماماً. بات علينا القبول بشروط القنوات المشفرة، وأن تتدحرج الكرة كالمحدلة فوق أجساء دافعي الضرائب حول العالم. طبعاً، احتفظنا بالشغف، بحق التشجيع، كحق الردّ الوحيد، وعدم الاعتراف بالوجهة الجديدة لكرة القدم. واستمر رفضنا حتى في مونديال الفافيلاس التالي. في 2014، لم ننتبه إلى حجم الشبه بين عشوائياتنا وبين أحياء صفيح البرازيليين. الدموع التي ذرفت على المدرجات، كانت في ظاهرها لقسوة النتيجة: فازت ألمانيا على البرازيل بسبعة أهداف مقابل هدف وحيد وسخيف. لكن العالم ما انفك يسحق العشوائيات بنتائج أعلى. كأس العالم فرصة أيضاً للبكاء، مثلما هي فرصة للاحتفال. كان البرازيليون يبكون في عشوائياتهم، لأن هزيمة المباراة النهائية، كانت تكريساً لهزائم الاستعمار الطويلة.
روسيا 2018. اليوم في موسكو. أحلام نعلّقها على ليونيل ميسي، كما علّقها الآباء على مارادونا. ميسي كان في روزاريو مثل أي واحد منّا. نتابع كأس العالم، ونختار فريقاً نشجعه، لأننا نعتقد أن العدالة ممكنة في المستطيل الأخضر، أكثر من أي مكانٍ آخر. اعتراف باليأس من العالم، أو موقف ضدّه ولأجله. ذلك أن المشجعين الحقيقيين هم الخاسرون. الرابحون لا يشجعون. الدليل على ذلك، أننا، ومنذ 24 عاماً، ما زلنا نتبع كرة باجيو، في طريقها إلى السماء، ولا نصِل.