يرتفع العلم الإيراني في شارع بئر العبد. يلوح في وسط السّاحة بين زحمة الأعلام الأخرى. يغزو بألوانه عتمة الضاحية في ليالي العيد. تفرغ الأحياء من قاطنيها، فيتراجع مستوى الحماسة في الشّارع. المشهد ذاته يتكرر بين أرجاء المنطقة. إيران حاضرة بكثافة في محالّ البيع وعلى مداخل المقاهي. هي ليست المرة الأولى التي يعلّق فيها العلم الإيراني هنا، لكنّ المناسبة تختلف، وتحتدم المنافسة مع المنتخبات الأقوى رياضيّاً. الجمهورية الإسلامية قويّة أيضاً في نظر جمهورها، فماذا عن انتصاراتها في ملاعب روسيا؟تخطّى المنتخب الإيراني مباراته الأولى أمام نظيره المغربي العربي بصعوبة. «حارب» لاعبو المنتخب على مدى 90 دقيقة من عمر المباراة حتى حققوا «النّصر» في الدقيقة الأخيرة «القاتلة». إيران الحاضرة بقوّةٍ على الساحة الدولية السياسية في السنوات الأخيرة، تحضر بين جماهير الضاحية، وإن كان جزء من أهل المنطقة ينحازون ــ عكس الشائع ــ إلى الفريق العربي المغربي.

التعاطف مع إيران
البحث عن مشجعٍ «عتيق» للمنتخب الإيراني صعبٌ بعض الشيء. لا مشجعين أصليين له. أغلبية الشبّان الذين قابلناهم يجمعون على هذا الرأي. بالنّسبة إليهم، إنّ تشجيع إيران يقتصر على التعاطف رياضياً كما هو الحال في مجالاتٍ أخرى. السياسة هي «سرّ» التعاطف، إذ يدرك الشعب اللبناني أن أوجه الشبه بينه وبين الإيراني ضئيلة جدّاً. فلولا العوامل التي ذكرت، لكان المنتخب الإيراني مثل أي منتخبٍ أجنبي آخر، خصوصاً أنّ حظوظه قليلة في المونديال، بحسب النتائج السّابقة، ما يؤثّر بضخامة جمهوره. حظوظ المنتخب الإيراني القليلة بالفوز لم تَثنِ علي سليم عن الدفاع عن حبّه له. يعلّق العلم الإيراني على مدخل بيته منذ سنوات، بمشاركة إيران في كأس العالم أو بعدمها. العلم الإيراني إحدى ركائز المنزل. سليم يفاخر بالانتساب إلى حزب الله منذ عام 2006. قد تكون ندوب الحرب على جسده أحد العوامل لتعلّقه بإيران إلى حدٍّ أبعد من السياسة، فهو يرى في المنتخب «انتصار ثورةٍ بأكملها». يذهب بعيداً بأفكاره إلى حدّ المزج بين المذاهب والسياسة مزجاً لا لبس فيه: «التشجيع ولاء لدولة صاحب الزمان». ولكن ماذا عن الدعم للدول العربية المشاركة؟ يجيب سليم من دون تردد: «أكيد السعودية ما بينحبو، رغم أنهم عرب»! الموقف يعبّر عن نفسه. للرجل موقف سياسي صلب.
البحث عن مشجعٍ «عتيق» للمنتخب الإيراني صعبٌ بعض الشيء إذ لا مشجعين أصليين له


الجمهور في الضاحية متباين إلى حدٍّ ما. يبدو الآخرون أقل تعصّباً من سليم. محمد حجيج عيّنة ثانية من هذا الجمهور. حجيج لا يخفي تأييده لحزب الله، بل يفاخر بذلك. يلتزم قرارات حزبه ويتأثّر بالبيئة السياسية والطائفية التي يعيش فيها. لا يتوانى عن الردّ على بعض المنتقدين لبيئة «الحزب» بالتأكيد أن «لا قرار حزبياً بوجوب تشجيع المنتخب الإيراني، لكنّ أغلب مجتمعنا سيتوحّد حول المنتخب». بالنسبة إليه، إنّ التبعية الرياضية للسياسة «نتيجة حتميّة لانقسام لبنان إلى مجتمعات عديدة، وكل مجتمع يتأثر بالقرارات السياسية والطائفية لرؤوس الدول التابعة له، وبالتالي ينسحب الأمر على المنحى الرياضي أيضاً». سرعان ما يناقض حجيج نفسه، إذ يعلن أنه «معروف بتعصّبه للمنتخب البرازيلي، وأنه يحاول دوماً الجمع بين تعاطفه مع إيران وتاريخه الرياضي الطويل مع البرازيل». قد يجد نفسه يوماً في حيرة إذا ما تقابل المنتخبان الإيراني والبرازيلي، لكنّه يحسم رأيه ويقول: «سأضع حينها السياسة جانباً وأتابع اللعبة من المنظور الرياضي فقط، لكنّني سأبقى مع إيران ضد أي منتخبٍ آخر».

«نصر» على أميركا
تخلّد ذاكرة الضاحية بعض المحطات التي لا يمكن أن تنسى. مباراة المنتخبين الإيراني والأميركي في مونديال 1998 واحدة منها. هنا رجلٌ يسجد لله شاكراً في منتصف الطريق، وآخر يرفع التكبيرات بأعلى صوته، قبل أن تطغى عليه أصوات المفرقعات النارية والرصاص. المشهد ليس من نسج الخيال، فالمباراة حينها مثّلت، بالنّسبة إليهم، «معركة» محورٍ بأكمله. الجمهورية الإسلامية في مواجهة «الشيطان الأكبر». بعض المصطلحات التي لا يمكن تخطّيها. شكّلت هذه المباراة لمن عايشها ركيزةً أساسية لتشجيع المنتخب الإيراني في كلّ مبارياته اللاحقة في كأس العالم. علي ملحم، وهو أحد الشبّان الذين شاهدوا المباراة، رغم صغر سنّه آنذاك، يتمنى التوفيق لإيران بالرغم من ولائه الكامل للمنتخب البرازيلي. قد تكون وجهة نظره اليوم مبرِّراً لردّ فعل الجمهور بالأمس. تبدو المعادلة بهذه البساطة لهم: إيران حققت «نصراً» رياضيّاً ضدّ أميركا. لا مكان للمجاملة، على الرغم من محاولات فصل الفوتبول عن السياسة مراراً. لكن هل تعلم «الفيفا» أنّ عدداً من الدول امتنعت عن اللعب مع الدولة الفارسية وديّاً لأسبابٍ سياسية؟
بضع خطواتٍ حول العاصمة بيروت وضواحيها سعياً لإثبات الإنحياز أو لضحده. الانقسام الحادّ في التشجيع سيّد الموقف. ومهما حاولنا نقل الصورة المتوازنة عن المجتمع اللبناني، نفشل أمام أوّل اختبار عمليٍّ في الشارع. يُفتقد العلم السعودي في محال الضاحية. علم واحدٌ معلق بخجل أمام إحدى البسطات في الأوزاعي. يستدرك البائع فوراً وجود العلم عند سؤاله عنه ويزيله من مكانه بخجل. لا بأس. المشهد ليس أفضل حالاً في الطريق الجديدة. أين هو العلم الإيراني؟ السؤال طبعاً غير محبّبٍ لأهل المنطقة.

بين لبنان وإيران
يرفض الإيرانيون الصورة النمطيّة المأخوذة منذ مدّة. بعض اللبنانيين، أو أفراد من البيئة المتعاطفة مع إيران، يدركون جيّداً أنّ «إيران لا تشبهنا، بل يمكننا القول إنّنا نجتمع معهم بالحالة السّياسيّة والطائفيّة». الموقف واضح لأهالي الضاحية. يستدرك البعض موقفه مرةً أخرى: «بل نجتمع مع جزء منهم فقط، فالمجتمع الإيراني متباين في ما بينه ايضاً». يسعى هادي فولادكار جاهداً «لتلميع» صورة بلده أمام الجمهور الخصم في لبنان. بلده الثاني كما يقول. يختلط الدم الإيراني واللبناني في عروقه. يحمل الجنسيتين بفخر. يعتزّ بهما في مطارات العالم. لا يفرّقه اختلاف اللغة أو التقاليد، بل يتوحّد في هوى البلدين. يُنقل عن المنتخب الإيراني أنّه من لونٍ طائفيٍّ واحد. يجهل كثيرون تنوّعه الديني والسّياسي. تطغى الطائفة المسيحية الأرمنية الأرثوذوكسية على تشكيلة المنتخب، باعتبار أنّها من الطوائف الكبرى في إيران إلى جانب الطائفة الشيعية. بحسب فولادكار، إنّ «منتخب بلاده يعبّر جليّاً عن مختلف الفئات في المجتمع الإيراني، ويضم لاعبين معارضين لنظام الحكم»، مشيراً إلى أنّ «الجمهورية الإسلامية دولة ديمقراطية وتحترم الحريات» (برأيهِ). يتابع متحمساً: «إيران تعني لي أكثر من أيّ شيءٍ آخر»، يختصر فولادكار موقفه، مبدياً وفاءه الكامل للمنتخب الإيراني. «أنا أقرب إلى إيران من المنتخبات العربية الأخرى المشاركة». لكن كيف بدا الوضع حين تقابل المنتخبان الإيراني واللبناني؟ يجيب فولادكار ممازحاً: «بحثت عن مدرّجٍ بين الجمهورين في المنتصف تفادياً للإحراج». يحافظ على حبّه للطرفين.

ثمة من يضع السّياسة جانباً
فولادكار ليس الحالة الوحيدة في معاناة انقسام الجمهور. ليال جرادي تشاركه الحالة ذاتها، وهي التي تحمل الدم الإيراني من جدّتها المتأصلة من مدينة قزوين الإيرانيّة. تنخرط جرادي في النسيج الاجتماعي الإيراني بعد عدة زيارات لإيران، ساعيةً لإتقان اللغة الفارسية جيّداً. قد يكون الارتباط العائلي والطائفي من العوامل التي أسهمت في تشجعيها للمنتخب الإيراني، إلّا أنّها تؤمن بضرورة «الفصل بين السياسة والرياضة والتمتع فقط بجمالية اللعبة بعيداً عن الحسابات الأخرى». تمتلك جرادي ثقافة جيّدة تجاه المنتخب الإيراني. تتابع المنتخب منذ عام 2014 من دون انقطاع. «تشجيع إيران لا يدعو للاستهجان» برأيها. تعبّر عن رأيها بوضوح. لديها من الخبرة الكروية ما يكفي لتقيّم أداء اللاعب علي دائي. «أسطورة» المنتخب. وهو الذي سجّل العدد الأكبر من الأهداف بين زملائه. في إيران، ملاعب كرة قدمٍ حديثة، كملعب أزادي الشّهير، وهو متاح لعامة الشعب الإيراني لمتابعة تدريباتٍ منتخبهم الوطني، وحتّى للسيّاح الأجانب. لاعبو نادي النجمة اللبناني أيضاً تابعوا بعض تدريباتهم هناك. تزداد جرادي فخراً بانتمائها المعنوي إلى إيران.



إيران تواجه «الفيفا»
على الرغم من محاولات «فيفا» المستمرة لإبعاد بطولة كأس العالم 2018 عن الأزمات السياسية في المنطقة، إلّا أنّ السياسة لحقت المنتخب الإيراني إلى ملاعب روسيا، حيث امتنعت شركة «نايكي» الرياضية عن تزويد لاعبي المنتخب الإيراني بأحذية رياضيّة بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، ما اضطرّ إيران إلى رفع دعوة على الشركة. والمفارقة أنّ نجم المنتخب الإيراني سامان قدوس، الذي يقطن في السويد، هو ممثل لشركة «نايكي» هناك، فاضطرّ إلى ارتداء علامة رياضيّة أخرى.


تحية فارسية
في مشهدٍ لافت، رفع لاعبو المنتخب الإيراني لدى وصولهم إلى مطار موسكو أعلام إسبانيا والبرتغال والمغرب إلى جانب العلم الإيراني، كتحيةٍ للدول التي سيواجهونها في تصفيات الدور الأول من بطولة كأس العالم.