تطوّر لافت شهدته مختلف مناطق وقرى الجنوب خلال السنوات الأخيرة، إلا أن هذا الأمر لم يبعد الناس هناك عن عاداتهم وتقاليدهم، وحتى الهوايات التي كانوا يمارسونها في السابق. حتى أن البعض الذي يرى أن الريف بدأ يتمدن، كان له رد فعل عكسي، وأصر على التمسك بهواياته وعاداته القديمة، والتي مع الوقت استقطبت آخرين، ومن هذه الهوايات هناك الفروسية. في الجنوب 300 فارس يجوبون قراه كل أسبوع بحبّ وشغف.صوت حوافر خيل. ترفع الفرس «غزل» رأسها، تُرخي أذنيها وتصهل. بسعادة تتبع فارسها دون أن يُطلب منها ذلك، تعرف إلى أين يتجهان. يدفع أبو عزو نفسه على السرج، وبإيقاع ثنائي خاص تهرول به إلى الأمام. «الخيول تجعلك تشعر بالحرية»، مزيج من المغامرة والقوة والحب، «لطالما أحببت الخيل وكنت محظوظاً بما فيه الكفاية لأنمو وأكبر في هذه العائلة»، يقول أبو عزو.
عندما كان مراهقاً، اخترق أبو عزو طرقات الضيعة ممارساً رياضة مثيرة سريعة الخطى في الهواء الطلق. يدرك أبو عزو حُسن حظه في وجود إسطبل بالقرب منهم «ركوب واقتناء الخيل لدينا هواية تتناقلها الأجيال، نشارك فيها بالأفراح والأحزان، ونقيم المجالس الكريمة لضيوفنا ونمارس الفروسية التي أصبحت تراثاً يحفظه الأبناء عن الآباء والأجداد». لا يتّسع له أن يذكر أسماء العائلات على اتّساع النطاق الجنوبي ولكي لا ينسى أحداً، يعتبر أن «كلّ من يساهم ويخدم تراثنا هو شريك حقيقي في حفظ هذه العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية والأخلاقية». في الجنوب اللبناني، يشارك الخيل في الأفراح، ويُزف العريس على الخيل في بعض الأحيان، وأيضاً في المناسبات الدينية (ذكرى عاشوراء). اليوم بات لهواة النوع رحلات منظمة تجمع أكثر من 300 فارس من أبناء الجنوب من مختلف الطوائف والمذاهب، يطلقون على أنفسهم لقب «خيالة الجنوب». على صهوات الخيل العربية الأصيلة، يتشاركون في مسارات ورحلات في مختلف البلدات والقرى، كل رحلة لها جاذبيتها الخاصة، يقول الفارس سالم من بلدة مغدوشة (قرب صيدا في جنوب لبنان) إن هذه الهواية فعلاً بحد ذاتها صورة عن التعايش الإسلامي المسيحي الذي نطمح ونسعى إليه في هذا البلد، «فالفروسية هواية ورياضة توحدنا ولا تفرقنا»، منذ فترة ذهبوا إلى راشيا الوادي، البقاع، الخردلي، وميس الجبل الحدودية قبالة فلسطين المحتلة.
يتشارك الفرسان في مسارات ورحلات في مختلف البلدات والقرى


مثلما ورثوا العادات والتقاليد، ورثوا حب الخيل أباً عن جد، «نشأ حبّ الخيل معنا منذ الصغر، وبدأ يكبر حتى تخطّى مرحلة الحب وأصبح إدماناً». من الاهتمام ومسايسة الخيل وصولاً إلى آخر مرحلة ركوب الخيل، تنشأ علاقة مودة وتعلق بين الحصان وصاحبه، يقول الفارس سالم: «صار وجود الخيل بحياتنا حاجة يومية بالدم مثلها مثل الحاجات الأساسية»، ويتابع، «لقد علمني الكثير عن التواصل وكيفية الاستماع حقا إلى مخلوق غير ناطق، وبناء لغة مفهومة متبادلة». ويضيف «عندما تركب حصاناً، فأنت تسلّم سلامتك لحيوان يبلغ وزنه أكثر من 100 كيلو. في الوقت نفسه، أنت تعلم أن الحصان يثق بك بما يكفي ليسمح لك بالصعود على ظهره».
ينظر البعض إلى هواية الخيل وتربيته وكأنها حكر على مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال والميسورين، ولكن الحقيقية مختلفة، فبحسب الفارس أبو عزو: «هنا في الجنوب أصبحت للجميع». في النبطية، الدوير، حاروف، جبشيت، حبوش، دير الزهراني، زفتا، عربصاليم، كفررمان وغيرها الكثير من القرى الجنوبية، بات الخيل موجوداً وبكثرة وباختلاف نوعياته وسلالاته، وهو ليس حكراً على أشخاص أو منطقة. تنتقل عدوى الفروسية بين الشباب، ورغم أسعار الخيل الباهظة في الكثير من الأحيان، «هناك شباب بيننا يجمعون ثمنها من مدخولهم الشخصي المتواضع لشراء حصان أو فرس»، وبعضهم يحلم بالفوز باليانصيب يوماً لشراء حصان أصيل بدلاً من شراء سيارة سريعة. وهذا أمر إيجابي بحسب سالم، لأنه يُبعد الشباب عن الأعمال والممارسات الطائشة، وبالتالي يصبّ تركيزهم على هذه الهواية دون غيرها من الأمور.
استطاع «خيالة الجنوب» استقطاب العديد من هواة النوع، وبات هذا التجمّع يضمّ في صفوفه، خيالة من جميع الفئات والطبقات والمهن الذين يجتمعون في رحلات الخيل، وهي تذكر بتجمعات سائقي الدرجات النارية الذين يتجمعون عند نهاية كل أسبوع ليقوموا بجولة في المناطق اللبنانية. بالنسبة إلى الخيالة هناك أصحاب المهن الحرة، أطباء، ومحاضرون في الجامعات، ومحامون، وقضاة، وعسكريون، جميعهم لديهم خيل، ويشاركون في الفعاليات. يقول الفارس سالم بالإضافة إلى المتعة التي نحصل عليها «نتعرف إلى شباب ووجوه جديدة من خيرة الشباب من ضيغ مختلفة، لأن الفارس وقبل أن يصبح فارساً يجب أن يتحلّى بصفات الفروسية وهي الشهامة والأخلاق والكرم».
إذاً هي واحدة من الرياضات والهوايات والعادات في الجنوب، وهي تضفي رونقاً خاصة على القرى هناك، ومع الوقت هي مرشّحة للتطور أكثر إذا حصل هؤلاء الفرسان على الدعم اللازم.