من إعدام 37 رجلاً أُدينوا في محاكمات جماعية، مروراً بسجن 11 ناشطة في حقوق المرأة، وصولاً إلى اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، تتوالى الممارسات التعسفية التي ترتكبها المملكة العربية السعودية يوماً بعد آخر. ولا يمكن نسيان عدوانها المستمرّ حتى الآن على اليمن، الذي دخل عامه الخامس، ليطبع علامة سوداء في سجلّ نظام الرياض الطويل. إلا أنّ الدولة الشرق-أوسطية بدأت في السنوات الأخيرة محاولة تلميع صورتها أمام المجتمع الدولي، وإظهار نفسها بصورة الدولة الحضارية والمنفتحة، وذلك من طريق استثماراتها في المجال الرياضي واستضافة نشاطات رياضية مهمة على أرضها، أحدثُها نزال الملاكمة التاريخي الذي ستستضيفه في كانون الأول/ ديسمبر المقبل.ستكون العاصمة السعودية الرياض في السابع من كانون الأول/ ديسمبر المقبل على موعد مع استضافة مواجهة الثأر بين الملاكم البريطاني، أنطوني جوشوا، والأميركي من أصل مكسيكي، أندي رويز. هذا النزال التاريخي الذي سيكون الأبرز في عالم الملاكمة هذا العام، حصلت المملكة على حق استضافته بعد «جهد استغرق نحو 8 أشهر من المنافسة مع الدول المتقدمة وبعض المدن والعواصم الكبرى»، بحسب ما كشفه رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة في السعودية، عبد العزيز بن تركي الفيصل. ولأنّ هذه المباراة ستكون مترقبة من العالم أجمع، فهي شكّلت فرصة مناسبة ستستغلّها المملكة لمصلحتها، وتحاول عبرها خفض أصابع الاتهام المرفوعة نحوها في الفترة الأخيرة. وبطبيعة الحال، استنكرت منظمة العفو الدولية اختيار السعودية مكاناً لإقامة النزال، على اعتبار أنّ ذلك يُسهم في التغطية على سجل المملكة السيّئ بانتهاكات حقوق الإنسان. إلا أنّ الاستنكارات والإدانات التي غالباً ما تطاول السعودية، وكما جرت العادة، لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي هذا الإطار، لا يغيب عن البال الأموال التي تدفها السعودية للعديد من الجهات لتغضّ الطرف عن ممارساتها.
تحدثت صحيفة الغارديان البريطانية عن محاولات السعودية لتبييض صورتها عبر الرياضة


إلا أنّ هذا النزال لن يكون أول فعالية رياضية مهمة تستضيفها الدولة الخليجية. فبعد اغتيال خاشقجي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في السفارة السعودية في إسطنبول، استضافت المملكة العربية السعودية سلسلة من الأحداث الرياضية: مهرجان «الجوهرة الملكية» العالمي للمصارعة الحرة، منافسات سباق الفورمولا E، مباراة ودية بين منتخبي الأرجنتين والبرازيل، نهائي السوبر الإيطالي بين نابولي ويوفنتوس، جولة PGA الأوروبية للغولف، وغيرها العديد من الفعاليات الرياضية. كذلك دعت إلى إقامة مباراة استعراضية في كرة المضرب بين النجمين الصربي نوفاك ديوكوفيتش والإسباني رافاييل نادال نهاية العام الماضي، إلا أنها أُلغيَت بسبب إصابة نادال حينها. يظهر جلياً إذاً الاهتمام المفاجئ لدى المملكة بالرياضة، الأمر الذي طرح العديد من علامات الاستفهام حول أسباب هذا الانغماس غير المألوف أو الطارئ في القطاع الرياضي بمختلف جوانبه. إلا أنّ الإجابة عن ذلك لا تحتاج إلى الكثير من النباهة أو إلى جهد عجيب في التحليل، حيث إنّ الوقائع تفسّر طبيعة هذه التوجهات غير المعهودة.
وفي هذا الإطار، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن عملية «غسل السمعة» التي تقوم بها السعودية عبر الرياضة، لإعادة تقديم نفسها للعالم بصورة الدولة المتحضرة، مؤكدةً أنَّ وثائق التسجيل الأجنبية لحملة الضغط السعودية لعام 2018 في الولايات المتحدة، أصبحت متاحة على الإنترنت الشهر الماضي. وأوضحت الصحيفة في تقريرها، أنَّ «الوثائق تُسلط الضوء على استراتيجية المملكة لتبييض سمعتها، التي تضمنت اجتماعات ومكالمات أعمال مع مفوضي دوري كرة القدم للمحترفين، الاتحاد الوطني لكرة السلة (NBA)، دوري البيسبول للمحترفين، فضلاً عن مسؤولين من بطولة المصارعة العالمية (WWE)، ولجنة لوس أنجليس الأولمبية». و«غسل السمعة عبر الرياضة» بالمناسبة، مصطلح صاغته منظمة العفو الدولية في عام 2018 لوصف الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم الرياضة للتلاعب بصورتها الدولية وتجاهل سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان.
تاريخياً، أدت السعودية دوراً محدوداً في الرياضة، تحديداً الدولية منها. بعيداً عن اهتمامها بكرة القدم المحلية، فهي اعتادت معارضة الأحداث الرياضية والترفيهية ذات «التأثير الغربي». إلا أنه بعد الكشف عن «رؤية 2030» الخاصة بالمملكة عام 2016، وبدء المشاريع الحكومية العملاقة التي برزت كثيراً في مجال الترفيه، باشرت الحكومة السعودية باستضافة الأحداث الرياضية الكبرى التي لم تكن موجودة سابقاً في الدولة الخليجية كجزء من عملية التغيير، واعتمادها كأداة استراتيجية لتعزيز سمعة البلاد على المستوى الدولي، إلى جانب محاولتها تحرير نفسها من اعتمادها البالغ على النفط، بحسب ما أعلن المسؤولون هناك.

يريد محمد بن سلمان شراء نادٍ أوروبي كجزء من المشروع (عن الويب)

والأمر لم يقتصر على ذلك، فهي رفعت في وقت سابق الحظر عن دخول النساء إلى ثلاثة ملاعب رياضية في الرياض وجدة والدمام، في سياق محاولاتها للظهور بصورة الدولة المنفتحة، واختيرَت الأميرة السعودية ريما بنت بندر آل سعود، على رأس الإدارة النسائية للهيئة العامة للرياضة السعودية، سعياً منها لنزع سلاح النقاد الذين استنكروا الحقوق المحدودة للمرأة وافتقار المملكة إلى القيم التقدمية. وهذا الأمر شكّل تغييراً كبيراً ومفاجئاً في سياسات الدولة التي كانت تظهر بصورة المحافظة، واستدارة كبيرة عن القيود الاجتماعية القمعية المفروضة مُنذ زمن طويل في المملكة.
إلا أنّ السعودية ليست الدولة الوحيدة التي تعمل على تلميع سمعتها عبر بوابة الرياضة، إذ تحاول المملكة محاكاة نموذج دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تشارك السعودية بالتاريخ القمعي بحسب ما تؤكد العديد من الجهات الحقوقية الدولية. إلا أنّ الإمارات نجحت في غسل صورتها، ليس فقط من خلال استضافة الأحداث الرياضية، بل عبر ملكيتها لأندية كرة قدم أوروبية، على رأسها نادي مانشستر سيتي بطل الدوري الإنكليزي الممتاز أخيراً. وفي هذا الإطار، لا تزال محاولات وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، مستمرة لامتلاك نادٍ أوروبي كبير، وعلى رأس الأولويات نادي مانشستر يونايتد الإنكليزي صاحب التاريخ الكروي الكبير .
تاريخ المملكة الحافل بالاعتقالات السياسية والإعدامات والممارسات الظالمة جعل من السعودية، وتحديداً ولي العهد محمد بن سلمان موضع انتقاد العديد من الدول العربية والغربية على حد سواء، لذا لم يكن هناك من بدّ سوى استخدام الرياضة كبيدق على لوحة الشطرنج السياسية. من السهل جداً على المملكة إنفاق أموالها لتحسين علاقاتها العامة وكسب التأييد العالمي، إلا أنّ الأمر يحتاج إلى أكثر من بضع مباريات كرة قدم لتبييض التاريخ الدموي للمملكة، مهما كانت الحملات الإعلامية المروجة لها متقنة.