صعبةٌ هي الأيام التي عاشتها كرة السلة اللبنانية في المواسم القريبة الماضية، إذ عانت أولاً من تراكم الديون في اتّحادها وأنديتها، ومن ثم من مشاكل فنية أبعدت المنتخب عن كأس العالم، وبعدها من تراجع الاهتمام الجماهيري بالبطولة بفعل ضعف مستوى بعض الفرق. من هنا، ربما جاءت فترة التوقف الطويل لتعيد أهل اللعبة إلى النقطة الصفر لرسم استراتيجية جديدة تتماشى مع الواقع المقبل للبلاد بشكلٍ عام، وتعيد للمستديرة البرتقالية جزءاً من بريقها، وهي طبعاً قادرة على فعلها بحكم الإمكانات البشرية الإدارية والرياضية الموجودة في دائرتها.وانطلاقاً من هذه النقطة، قد يطول الحديث عن الحلول، لكن الواقع أن أيّ حلٍّ لن يكون تظهيره صعباً إذا ما كان هناك اقتناع من الأطراف المرتبطة به، وطبعاً قناعة نهائية حول وجود مشكلات في جوانب عدة تحتاج إلى علاجٍ من بوابة الحاجة إلى تغييرٍ في التعاطي مع الظروف الصعبة والعقبات الطارئة.
لذا لا ضير من القول إن أولى النقاط التي يفترض العمل عليها هي في إعادة ترتيب البيت الداخلي، إن كان في الاتّحاد اللبناني للعبة أو في الأندية، حيث تبدو الحاجة الضرورية إلى وجود فريق عملٍ متكامل يستطيع كل أفراده الإنتاج، لا كما هو الحال في مكاتب كثيرة حيث الاعتماد الأول والأخير مثلاً على الرئيس أو الأمين العام وربما بعض الأعضاء.
وهذه المشكلة أي العمل الاحترافي في الإدارة تعاني منها أصلاً رياضات مختلفة، وخصوصاً تلك التي تضطر إدارات اتّحاداتها وإنديتها إلى العمل وفق أطرٍ لا ترتبط بالرياضة حصراً. ومما لا شك فيه أنّ في كرة السلة لا تبدو المسألة بنفس السوء الذي بدا في رياضات أخرى، لكن الأكيد أن هناك حاجة ماسّة لتذويب المشاكل وخلق هيكلية جديدة تحاكي المنطق وتترك نتائج إيجابية.

الواقع المرير للاعبين
طبعاً يأتي الموضوع المالي في مقدّمة الحديث عن أي مستقبل مشرق لكرة السلة اللبنانية، التي فقدت العنصر الأهم الذي صنع مجدها وهو المال. وتتفرع أسباب هذه المشكلة، لكن حلّها ليس بالأمر المستحيل إذا ما وُضع الإصبع على الجرح المتمثّل بالتضخم المُبالغ به من حيث التعامل مع اللاعبين، إذ أن ذاك «البالون» الضخم يجب أن يقلّص حجمه ببساطة، وذلك من خلال تحديد أعلى وأدنى سعر للرواتب، والذي قد يلحظ بحسب الخبراء مسألة تخفيض العقود الحالية إلى إكثر من النصف بالنسبة إلى لاعبي الفئة الأولى.
هي خطوة ظالمة للاعبين الذين يعتبرون قلب اللعبة وأساسها، لكنهم أصبحوا يعرفون أيضاً أنه مع التوجه الاقتصادي - المالي الجديد في البلاد، أصبحت مسألة العملة حساسة إلى حدٍّ كبير، والواقع الصعب يفرض قبولاً بأيّ طرحٍ يرتبط بالمصلحة العامة وإلّا ستلاقي كرة السلة مصيراً أشبه بمصير الكثير من المصالح التي قضت عليها الأزمة التي تعيشها البلاد.
إيجاد استراتيجية تحمي مال الأندية وتضمن حقوق اللاعبين تبدو أولويّة مستقبلية


من هنا، يبدو القبول بعروض واقعية هو مسألة منطقية، ولو أن ما سيُعرض على اللاعبين سيكون صعباً التفكير فيه مقارنةً بالأرقام السابقة التي حصلوا عليها، والتي حوّلت حياتهم إلى رياضيين محترفين بعكس ما يعيشه كل الرياضيين الآخرين في لبنان. لكن الحقيقة أن اللاعبين أنفسهم يهمسون في مجالسهم الخاصة بعبارات تترك قناعةً بأنهم أصبحوا يعرفون بأن اللعبة لم تعد بمثابة منجم الذهب، بل ربما باتت مصدراً لتحصيل بعض الأموال واستثمارها في مكانٍ آخر (عمل خاص على سبيل المثال على غرار ما فعل عدد لا بأس به من اللاعبين)، أو إذا صحّ التعبير يمكن اعتبارها مصدراً غير مباشر للعيش أي وسيلة دعم إضافي.
هو كلام لا يدعو إلى اليأس أو الاستسلام لأن الأمور ليست معقّدة لدرجةٍ يمكن القول فيها إن الوضع لن يعود إلى طبيعته. لكن كل هذا طبعاً يرتبط بوضع خطة اتّحادية واضحة، وهي مسألة نادى بها القيّمون، طالبين منطقياً أن يعرف الكل مدى الصعوبات المفروضة على الجميع. وهذه الخطة ترتكز بالتأكيد إلى إيجاد التوازن لإبقاء عنصر المال من دون أضرارٍ بالغة. وهنا يمكن أخذ الدوري الأميركي الشمالي للمحترفين كمثالٍ صارخ على العمل الاحترافي في عدم إلحاق الضرر بالبطولة من خلال الابتعاد عن المبالغة والتضخّم في الرواتب، وذلك لناحية تحديد موسميّ لسقف العقود بحسب قدرة السوق. والواضح أن بطولة لبنان تحتاج إلى هذا التوجّه أكثر من أي بطولةٍ أخرى، فالسوق هنا يتبدّل كثيراً، ويبدو غير منطقي في أحيانٍ كثيرة، ما دفع الكثير من المستثمرين إلى الهرب كونهم لم يتوقعوا قبل دخولهم إلى الساحة ما واجهوه من متطلبات بعد انغماسهم فيها. لذا يجب تشجيع أندية أطلت في مواسم سابقة، لكن مشوارها كان قصيراً رغم قيامها بعملٍ مميّز، والسبب لتركها اللعبة هو في الأغلب شعور القيّمين عليها بعدم الراحة أو الشعور بأن الاستثمار محمي من المسؤولين.

الأندية هي الحلّ
مخطئ من يعتقد أن اللعبة لم تعد قادرة على استقطاب الأموال، والدليل ما تمكن الاتحاد اللبناني من فعله عندما استقطب عدداً من الرعاة من خلال التسويق الجيّد لمنتخب لبنان ومبارياته، ما يعني أنه مطلوب من الأندية أن تعتمد هذا التوجّه وتسوّق نفسها واللعبة بطريقة مثالية ترتكز أولاً إلى مخاطبة جمهورها بشكلٍ صحيح أي بعيداً من ربطه بدائرتها السياسية أو الطائفية، بل تحويل نفسها إلى منتج جذاب يحمل إليها جمهوراً أكبر ومن دون ارتباطات مناطقية وغيرها.
أيضاً يبرز مثال ناجح حول هذه المسألة، ففي الفيليبين شجع القيّمون الشركات الخاصة للاستثمار في اللعبة، ما جعل الأندية تعيش بحبوحة، ما ضمن حقوق اللاعبين. وهذا الأمر ترافق طبعاً مع تسويقٍ استثنائي على صورة ذاك الذي حصل في الأردن حيث عمل المسؤولون على تغيير شكل وشعار المنتخب (تحوّل لباسه من اللون الأحمر إلى الأسود مثلاً)، ليظهروه بشكلٍ جذاب ومثير للاهتمام ما جذب المعلنين.

يأتي الموضوع المالي في مقدّمة الحديث عن أي مستقبل مشرق لكرة السلة اللبنانية

وللتسويق يطل مطلب الإدارة المحترفة أيضاً، وذلك من خلال الاعتماد على فريق عملٍ متمكّن ومتخصص، يعرف تماماً كيفية إيصال رسائل معينة تجذب الجمهور والرعاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من الوسائل التي تربط المشجعين باللعبة عامةً.
إذاً دور الأندية أكبر مما يتصوّره البعض، فهي أيضاً يمكنها أن تخلق موارد لنفسها من خلال الأكاديميات الموجودة أصلاً لدى غالبيتها، لكنها تحتاج إلى تعزيز عملها، إذ إن نادياً مثل الحكمة لم يدخل هذا الميدان بجديّة إلّا منذ فترة قصيرة، ونادياً كبيراً آخر مثل الرياضي يملك أكاديمية مليئة بالمواهب، يمكنه بلا شك التفكير في رفع المستوى التدريبي من خلال استقدام مدربين أو مشرفين أجانب يساعدون النشء على التطور ويبثون أفكاراً مثمرة في الكادر التدريبي.

الشفافية الإدارية
كما تبرز فكرة غير ضارّة تتمحور حول خلق أرضية صالحة وشفافة لحماية مصالح الجميع وإسكات الأصوات التي تنادي دائماً بوجود مؤامرة عليها، وذلك من خلال إيجاد رابطة لإدارة الدوري بالتنسيق مع إدارة الاتحاد، وهي فكرة تطويرية لا تسيء إلى احد بل تزيد من مستوى الخبرات ومن الحلول.
ويضاف إلى كلّ هذا الاقتناع بأن المشاكل المالية التي عانت أندية كثيرة منها وأثّرت سلباً على الدوري وأغرقت لاعبين في ديون ودعاوى قضائية، يجب القضاء عليها من خلال تحديد ميزانية الأندية وإجبار الأخيرة على وضع ضمانات لكي يسمح لها بالمشاركة في البطولة، وهي قاعدة تعتمدها الكثير من البلدان المتقدّمة في عالم الرياضة أو تلك التي تملك اقتصاداً مستقراً على غرار بلجيكا التي تضم بطولتها 6 أندية، أو أوكرانيا التي لم يتخطَّ عدد أندية البطولة فيها الـ 8 فرق في فترةٍ سابقة، ما يعني أنه ليس عيباً أن تطلّ بطولة لبنان بـ6 فرق تجمع أفضل اللاعبين وتقلّص من حجم المشكلات التي لطالما أصابت الاتحاد بأوجاع الرأس.
هي سلّة متكاملة قد تضع كرة السلة في الواجهة مجدّداً، وهي التي تملك بعداً أكثر من الساحة المحلية التي لا ضير من الخروج منها في فترةٍ لاحقة عبر استعراض البطولة في بلاد الاغتراب (لعب النهائي بعيداً من لبنان مثلاً، وهذه فكرة طُرحت سابقاً) حيث الاهتمام الكبير من اللبنانيين المنتشرين في الخارج، ما يجذب أرباحاً وربما مستثمرين أيضاً. وهنا يكفي أن نتذكر المشهد النهائي التاريخي بين الرياضي والحكمة في دورة دبي الدولية عام 2016.