جود بيلينغهام. الأكيد أن كثيرين من متابعي كرة القدم لم يسمعوا بهذا الاسم سابقاً. هو لاعبٌ إنكليزي لم يتجاوز عمره السادسة عشر، ويلعب لنادي برمنغهام سيتي في دوري الدرجة الأولى، لا بل أكثر من ذلك، فلاعب الوسط الموهوب وبعمر الـ16 عاماً و38 يوماً أصبح أصغر لاعب يشارك مع الفريق الأول في ناديه العام الماضي.القصة لا تنتهي هنا، إذ من الطبيعي أن يلفت بيلينغهام أنظار أبرز الأندية في بلاد الـ«بريميرليغ» على غرار كلّ المواهب الإنكليزية، فكان مانشستر يونايتد مبادراً لمحاولة ضمّه إلى صفوفه. خطوةٌ هي بمثابة الحلم لأيّ لاعبٍ في العالم لا في إنكلترا فقط، لكن كان لبيلينغهام رأي آخر، والسبب هو بروسيا دورتموند.
النادي الألماني الشهير نجح مرّة جديدة في التغلب على واحدٍ من أكبر أندية العالم في المكاتب قبل الملاعب، إذ تردّد أن بيلينغهام وافق بالفعل على الانضمام إلى الفريق الأصفر والأسود ليبدأ مسيرته هناك في الـ«بوندسليغا»، ساعياً لشقّ طريقه باتجاه النجومية على غرار ما فعل غيره من النجوم الذين تخرّجوا من ملعب «سيغنال إيدونا بارك».

السنّ ليس معياراً
لكن ما هو السبب الذي يجعل المواهب البارزة في تفضيل دورتموند على غيره؟
أول الأسباب هو عدم اكتراث دورتموند بالسنّ الصغيرة للاعب، بمعنى أنه لا يهم إذا ما كان يافعاً، فالمهم أن يكون قادراً على العطاء وتقديم المطلوب منه على أرضية الميدان. مسألة ثبتت في المواسم القريبة الماضية في حالاتٍ عدة، على غرار حجز الأميركي كريستيان بوليسيتش (لاعب تشلسي الحالي وأصغر لاعب أجنبي سجّل هدفاً في ألمانيا) مكاناً أساسياً في التشكيلة، ومثله فعل الإنكليزي جايدون سانشو الذي بات النجم الأول للفريق بعدما نبذه مانشستر سيتي ورأى فيه لاعباً لا يستحق دوراً مع الفريق الأول. أما الآن فيطل الأميركي الآخر جيوفاني راينا الذي لم يتجاوز الـ 17 من العمر ليلعب دوراً مهماً في الأوقات الصعبة.
كل هؤلاء بدأوا مسيرتهم في الـ«بوندسليغا» بنفس السن الذي لا يعيره دورتموند أي اهتمام، إذ يقال اليوم إنه في المراحل الأخيرة من الدوري أو في مطلع الموسم المقبل، سيقدّم إلى العالم «الفتى المعجزة» يوسوفا موكوكو (15 عاماً) الذي يشرع في تحطيم كلّ الأرقام التهديفية في بطولات الفئات العمرية.
لا يهتمّ دورتموند لسنّ اللاعب إذا كان قادراً على العطاء وتقديم المطلوب


ويأتي السبب الثاني الذي يرتبط بالأول بالتأكيد، وهو أن دورتموند يملك ثقافة استثنائية تختصر بتقديم النجوم إلى ساحة الأضواء بعد تحوّلهم إليه، وذلك في موازاة العمل على تطويرهم، وهو السبب الذي قيل إنه كان وراء انتقال الهداف النروجي إيرلينغ هالاند إليه في «الميركاتو» الشتوي، مفضلاً عدم الذهاب إلى إنكلترا، إيطاليا أو إسبانيا، كونه أراد عدم حرق المراحل، والعمل في نادٍ يؤمن بأن للاعب الشاب أولوية.
وبالتأكيد ينظر هالاند اليوم إلى هداف الدوري، البولندي روبرت ليفاندوفسكي، كمثالٍ أعلى لقصة نجاح بدأت في دورتموند ووصلت إلى أعلى مستوياتها الآن في بايرن ميونيخ. القصة نفسها خطّها مثلاً الياباني شينجي كاغاوا والغابوني بيار – إيميريك أوباميانغ.
كل هؤلاء وغيرهم كانوا نتاج المصنع التطويري لدورتموند الذي سلك طريقاً خاصاً به منذ تعرّضه لهزّة مالية ضخمة في عام 2005، دفعت حتى غريمه بايرن ميونيخ إلى تقديم المساعدة له قبل انهياره. في تلك الفترة خلُص بطل أوروبا السابق إلى مسألة مهمة، وهي التوقف عن صرف المبالغ لاستقدام اللاعبين الكبار في السن من ألمانيا وخارجها، وتعزيز شبكة الكشافين الذين بإمكانهم استقطاب المواهب القادرة فعلاً على التطوّر بشكلٍ سريع، ومن ثم بيعها وتحقيق الأرباح التي تؤمّن استقراراً مالياً.

«البيزنس» الناجح
ومن هذه النقطة انطلق دورتموند ليخلق ثباتاً فنياً في تشكيلته محقّقاً نتائج لافتة. أضف تحقيقه أرباحاً مالية بفعل رفعه قيمة نجومه بعد إفساح المجال لهم للعب الأدوار الأولى وإظهار ما لديهم. الأرقام تحكي ببساطة عن النجاحات، أذ أن الفرنسي عثمان ديمبيلي انتقل مثلاً إلى دورتموند مقابل 15 مليون يورو، لكن الأخير باعه إلى برشلونة الإسباني مقابل 125 مليون. بوليسيتش هو نتاج الأكاديمية، وقد انتقل إلى تشلسي في الصيف الماضي مقابل 64 مليوناً. ونفس المبلغ حمل أوباميانغ إلى آرسنال الإنكليزي بعد وصوله من سانت إتيان الفرنسي مقابل 13 مليوناً، بينما وقّع ماتس هاملس مقابل 4 ملايين في عام 2009، ومن ثم رحل إلى بايرن مقابل 35 مليوناً في 2016.


وفي هذه الثقافة يدخل ذكاء المدير الرياضي ميكايل تسورك الذي يعرف كيفية إقناع اللاعبين الشبان بعدم الإنصات إلى أيّ نادٍ آخر والتوقيع لناديه، إذ أنه يعمل غالباً على تأمين كل ما يلزم لعائلات هؤلاء اللاعبين لنقلهم معهم إلى ألمانيا حيث يكونون على مقربةٍ من أبنائهم. وينطلق هذا التوجّه طبعاً من تأمين مستلزمات الراحة النفسية والمعنوية كافة للاعب لكي يكون الاستثمار الفني ناجحاً في نهاية المطاف، إذ بحسب المنسّق العام لأكاديميات النادي ولاعبه السابق لارس ريكن، لا يعمل دورتموند على استقطاب المواهب لكي يرفع الكؤوس في بطولات الناشئين، بل إن الهدف الأول هو حصد النجاحات على مستوى الرجال.
وما يساعد دورتموند أيضاً في مجال إقناع اللاعبين الصغار بالانضمام إليه ليس منحهم الوقت الكافي للعب فقط، بل ثقة الأندية الأوروبية الأخرى به من خلال اقتناعها بأن إعارتها للاعبيها للدفاع عن ألوانه ستعود إليهم بالفائدة، والدليل ما يفعله المغربي أشرف حكيمي اليوم بعدما اقتنع ريال مدريد الإسباني بأن أفضل حلّ لتطوّره قبل عودته إلى سانتياغو برنابيو هو اللعب مع فريقٍ كبير ينشط في المنافسة المحلية ويحضر في المنافسة الأوروبية، فكان دورتموند هو الخيار الأمثل.
كما أن أيّ لاعبٍ لا يرفض اللعب في سنٍّ صغيرة أمام 80 ألف متفرج في سيغنال إيدونا بارك، حيث يكسب قوة ذهنية باعتياده على ضغط الجمهور الكبير والرائع هناك. هو أمر يساعد في نضوجه السريع، والدليل قصة سانشو الذي احتاج إلى أقل من سنة لكي يصبح لاعباً أساسياً في منتخب إنكلترا بعد تسجيله لبدايته مع دورتموند.
اليوم القصة نفسها تتكرر مع نجمٍ إنكليزي آخر مرتقب، إذ أن دورتموند يستغلّ أخطاء غيره ويرحّب بالهاربين من «جحيم» الفرق الرديفة عبر فتح ذراعيه وباب الفريق الأول لهم بكل سرور.