منذ اليوم الاول لظهوره في الملاعب حتى يومنا هذا، لا يزال النجم الكبير ليونيل ميسي يرسم قصةً مثيرةً في الملاعب وخارجها. آخر حلقات هذه القصة هي مالية وترتبط بعقده الذي ينتهي في الصيف المقبل، وهي القصة التي لا يستبعد ان تكون المسمار الاخير في نعش العلاقة الميتة سريرياً اصلاً بين افضل لاعب في تاريخ النادي الكاتالوني والمسؤولين عن «البرسا».بطريقة غير أخلاقية وبعيدة كل البعد عن الاخلاق المهنية، تمّ تسريب تفاصيل عقد ميسي الذي أُبرم لمدة 4 سنوات يتقاضى خلالها «ليو» اكثر من 555 مليون يورو. التسريب واضح، اذ تمّ نقل الارقام الى صحيفة مدريدية الهوى وهي «إل موندو»، والتي افردت صفحتها الاولى لعنوان يرافق صورة ميسي ويقول: «العقد الفرعوني الذي دمّر برشلونة». واسهبت الصحيفة عندما افردت على صفحاتها جداول طويلة تستعرض من خلالها كل فلسٍ يقبضه ميسي من «البرسا»، إن كان في ما يخصّ راتبه أو مكافآته أو المتغيّرات في عقده، أو حتى ما يحصل عليه عند فوزه بجائزة فردية أو ما يرتبط بعقود الصور والتسويق الخاصة بصورته الشخصية.
الحديث تمحور طبعاً حول راتبٍ ضخم يصل الى 138 مليون يورو سنوياً، وعن مبلغٍ كبير ٍآخر حصل عليه عند موافقته على تجديد العقد ويصل الى 115 مليوناً، اضافةً الى رقمٍ أثار الجدل وفتح نار الانتقادات باتجاه ميسي ومجموعه 78 مليون يورو صُنّف تحت اسم «مكافأة الولاء».

معركة ضمن الحرب المفتوحة
طبعاً ما يحصل لم يكن من باب الصدفة، إذ إن تسريب كل هذه الارقام يبدو أمراً مريباً، وخصوصاً أن السريّة تلحظ تفاصيل العقود عادةً، وهو امر ارتبط تحديداً في ما خصّ ميسي، حيث حرصت ادارة النادي الكاتالوني في عام 2017 على عدم الكشف عن تفاصيل الارتباط الجديد، لكن الامور مختلفة تماماً اليوم.
هي مختلفة بالتأكيد لسببٍ بسيط، فميسي وجّه ضربةً قاضية لادارة جوسيب ماريا بارتوميو وأجبر الاخير على التنحي وفرض انتخابات جديدة في النادي. كما ان ميسي نفسه وضع بارتوميو وادارته الفاشلة والمشبوهة تحت نيران الجمهور الذي تظاهر غضباً عند سماعه نبأ طلبه الرحيل عن النادي العام الماضي، بعد رفضه لسياسة الادارة. كل هذه الاسباب وغيرها، وانتصار ميسي في المعركة، جعلت البعض يظهر للقول له إن الحرب لم تنتهِ وإن هذا البعض يمارس سياسة الارض المحروقة من خلال قطع الرابط العاطفي بين ميسي وبرشلونة ودفعه الى الرحيل عند نهاية عقده بدلاً من ان تستفيد الادارة الجديدة من وجوده مع «البلاوغرانا».
غلاف صحيفة «ال موندو» عن ليونيل ميسي

هي حربٌ يبرع فيها بارتوميو وجماعته، فهؤلاء كانوا وراء أول مجموعة المشاكل بين ميسي والادارة عندما اكتشف نجوم برشلونة أن هناك من وظّف شركةً معيّنة لمهاجمة اللاعبين وانتقادهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما الكشف عن تفاصيل عقد ميسي إلا إضافةً جديدة في هذا الاتجاه، لأن التسريبات الأخيرة فتحت «باب جهنم» على قائد الفريق وأفضل لاعب في تاريخ النادي من قبل شريحةٍ لا يستهان بها من الجمهور.
وهذا الكلام يأتي بعد لعب ادارة بارتوميو ورقةً سابقة للنجاة بنفسها لناحية التكرار في الاعلام أن النادي يرزح تحت ديونٍ تتجاوز قيمتها مليار يورو. وازداد التركيز على هذا الرقم بعد تألق الاوروغوياني لويس سواريز وقيادته اتلتيكو مدريد الى صدارة «الليغا»، ما أثار نقمة الجمهور بسبب تخلي الادارة عن هذا النجم، فكان الردّ بأن الخطوة جاءت لتوفير راتبه الكبير في ظل وضعٍ مالي صعب يعيشه النادي.
وفي موازاة اتهام البعض لميسي بعدم إحساسه بالوضع الصعب للنادي ومساعدته على تخطي ازمته المالية لناحية تنازله عن بعض المكاسب التي يتضمنها العقد، يمكن القول إن جماعة بارتوميو نجحت في تشويه صورة ميسي لدى شريحة معيّنة من الجمهور، ولو أن بياناً صدر عن النادي أكد ملاحقته الصحيفة ومن وراء التسريبات، تماماً كما كشف ميسي أنه سيذهب الى القضاء في هذا الاطار.

ميسي سبب الديون؟
لكن ما فات كل هؤلاء المهاجمين لميسي ومن أطلق أول رصاصة عليه من خلال تسريب الارقام، أن الارجنتيني كان السبب الاول وراء انجازات واحتفالات برشلونة في العصر الحديث، وأنه ايضاً كان الطعم الذي جذب الرعاة من مختلف انحاء العالم وأغنى النادي وجعله في حالة بحبوحة. كما فاتهم أن الديون لا يُسأل عنها ميسي بل سياسة التعاقدات الفاشلة التي ترتبط بالكادر الاداري الذي لم يعرف ايجاد التوازن الفني – المالي. وتضاف نقطةٌ اخرى وهي أن الادارة نفسها هي من وافقت على شروط ميسي لا بل أغرته بهذا العقد لكي يبقى لفترةٍ اطول في النادي. أضف ان ازمة الديون الحالية لم يكن سببها هذا العقد، بل هي ازمةٌ عامة يعاني منها اكبر الاندية العالمية بسبب تداعيات تفشي وباء «كورونا».
يعود الفضل الأول والأخير في نجاحات برشلونة الفنية والتجارية عبر السنوات الى ميسي دون سواه


اما الاهم من كل هذا والسؤال الذي لم يطرحه مهاجمو ميسي على انفسهم: لماذا لا يزال برشلونة على رأس قمة اكثر الاندية ربحاً بحسب «الدوري المالي» الصادر اخيراً عن مؤسسة «ديلويت» الشهيرة؟
الجواب ببساطة لانه يملك نجماً مثل ميسي. نجمٌ رفع المستوى التجاري لنادي برشلونة وعوّض عليه كل الاموال التي دفعها له عبر جذب المعلنين والرعاة اليه، اضافةً الى الجوائز المالية الضخمة من جراء قيادته للفوز بالالقاب.
برشلونة اليوم، وبحسب «ديلويت»، هو على الطريق ليكون في المستقبل القريب اول نادٍ في التاريخ يصل الى ارباحٍ بقيمة مليار دولار سنوياً، وذلك بعدما سجّل ارباحاً بلغت 959.3 مليون دولار بين عامي 2018 و2019، قبل ان تصل عائداته عن السنة الماضية الى 864 مليوناً رغم كل الصعاب التي تعانيها كرة القدم.
واللافت ان 437.6 مليوناً من المبلغ المذكور دخل الى خزائن برشلونة من خلال اعماله التجارية العامة، فهل كان سيحققها لولا وجود ميسي؟
قطعاً لا، اذ إن الارجنتيني هو «وحش اعلاني» بكل ما للكلمة من معنى، تماماً كما هي حال البرتغالي كريستيانو رونالدو في هذا الاطار، والدليل هو كلام مالك نادي يوفنتوس الايطالي أندريا أنييللي يوم تعاقد مع الاخير مقابل 100 مليون يورو من ريال مدريد الاسباني، إذ ردّ بأن الهداف التاريخي للعبة أفرز ربحاً مضاعفاً للنادي قبل ان يصل حتى الى مطار تورينو للالتحاق به!
اذاً الموضوع يتخطى الجانب الفني ومدى اهمية ميسي التي لا يستطيع احد انكارها، والتي جعلت الكثيرين يسألون انفسهم ماذا سيشاهدون في برشلونة عند اعتزال «البرغوث» الذي طبع الفريق بطابعه الخاص منذ ما يقارب عقداً من الزمن. فعلاً الموضوع ابعد من ذلك، لان تأثير ميسي كان ابعد من ملعب «كامب نو» ومحيطه، فهو رفع ايضاً من المستوى السياحي لمدينة برشلونة، اذ إن الملايين تقاطروا من حول العالم لمشاهدته عن كثب ولزيارة النادي والملعب ومتحفه، وتالياً المدينة التي اصبح اسمها مرادفاً لاسمه.
اكثر من 700 هدف و300 تمريرة حاسمة لا يمكن تحديد ثمنٍ لها تماماً كما هي موهبة ميسي التي لا تُقدّر بثمن، فهو فعلاً فرعون، لكن لحُكم ارض الملعب وكرة القدم وقلوب عشاقها التي احتلها، فما مبلغ الـ 555 مليوناً وما يفوقه الا رقم لا يوفيه حقه وعطاءاته وفضله على برشلونة واللعبة الشعبية الاولى في العالم.