تغيّرت المعادلة في السنوات الماضية، لم تعد الأضواء كل شيء بالنسبة إلى لاعبي كرة القدم. فبعدما كان حلم أي لاعب يقضي بتحصيل الشهرة عن طريق الالتحاق بأحد الدوريات الخمسة الكبرى، سلك البعض منعرجات أخرى، فذهبوا إلى دوريات غير متوقّعة. وجد بعض اللاعبين في الدوري الأميركي محطةً مهمة قبل الاعتزال، حيث حصلوا على «إكسير الشباب» قبل إنهاء مسيرتهم نظراً إلى الفارق الكبير بين مستوياتهم ومستوى اللاعبين هناك، فيما اتجه آخرون وراء المال فشدّوا الرحال إلى الدوري الصيني. آخر المحطات «المستغربة» تمثّلت بالدوري التركي الممتاز، الذي شهد في السنوات الأخيرة إقبال العديد من نجوم النخبة من كل الأعمار ولأسبابٍ مختلفة.قبل الطفرة الكروية، عرف الدوري التركي بعض حركات الانتقالات «الخجولة»، والتي ساهمت تباعاً في الوصول إلى الصورة التي عليها هذا الدوري اليوم. فقد بدأ النزوح الكروي إلى تركيا عام 1984، عندما وصل المدرب يوب ديروال إلى غلطة سراي. عندها، أحدث الألماني ثورة في أساليب التدريب وحسّن معايير كرة القدم التركية بشكلٍ كبير، ما شجّع مدربين أجانب آخرين للقدوم مثل غوس هيدينك وجوردن ميلن وسيب بيونتك. هكذا، ارتقى مستوى كرة القدم في البلاد وجذب العديد من اللاعبين للقدوم.
حطّت الأسماء الكبيرة الأولى في عامَي 1987 و1988، حين جاء كل من ديدييه سيكس وهارالد شوماخر اللذين انضما إلى غلطة سراي وفنربخشة، إضافةً إلى بعض الأسماء الأخرى. استقدام النجوم انعكس حينها إيجاباً على الأندية، حيث وصل غلطة سراي عام 1989 إلى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا. بعدها، جاء كل من جان ماري بفاف وداليان أتكينسون وريموند أومان، إضافةً إلى المتوّجين بدوري أبطال أوروبا عام 1995 جون فان دين بروم وبيتر فان فوسن.
رغم تلك الأسماء الرنّانة، تمثلت العلامة الفارقة في عام 1996 عندما استقدم غلطة سراي اللاعب جورج هاجي، والذي ساهم مع حارس مرمى البرازيل الأسبق كلاوديو تافاريل في تحقيق الكأس الأوروبية الوحيدة في تاريخ كرة القدم التركية، حين هزم غلطة سراي نادي آرسنال في نهائي كأس الاتحاد الأوروبي عام 2000.
هكذا، انسحب تألق غلطة سراي على المنتخب الوطني الذي تمكّن عام 2002 من انتزاع برونزية مونديال كوريا الجنوبية واليابان، ثم برونزية كأس القارات 2003 في فرنسا، قبل الوصول إلى المربع الذهبي في يورو 2008، لكن الأمر أخذ منحى مغايراً تماماً مع نهاية ذلك العقد، على خلفية دفاتر سوداء فُتحت في الدوري التركي.

تراجع وعودة
ففي موسم 2010/2011، طاولت قضايا الفساد العديد من الأندية التركية، ما أدى إلى توقيف رئيس بطل الدوري آنذاك فنربخشة، إضافةً إلى 60 آخرين من لاعبين وحكام ومسؤولين، كما تمّ تأجيل الدوري لأسابيعٍ عديدة. وفي ظل الفساد المستشري وفقدان الكرة للشفافية والجاذبية، خلت المدرجات وهرب رعاة الأندية. على خلفية ذلك، كادت كرة القدم التركية أن تنتهي كلياً، لولا اعتماد القيّمين مشروعاً محاكياً للدوري الأميركي، يقضي بالإضاءة على الدوري التركي عبر استقدام نجوم كبار مقبلين على الاعتزال، ما يشجع الجماهير على العودة إلى الملاعب، كما يجذب مختلف اللاعبين للقدوم مستقبلاً.
هكذا، اتجهت الأندية التركية، على غرار غلطة سراي، بشكتاش وفنربخشة، إلى التعاقد مع نجوم سابقين لم يكلفوا الكثير بسبب إقبالهم على الاعتزال، لكنهم ساهموا في إحياء الكرة شيئاً فشيئاً. ومن جهة اللاعبين، كان لكل منهم دوافعه التي جعلته يلتحق بالدوري التركي، فمنهم من أراد استعادة المستوى، ومنهم من طمع بالعائد المالي، فيما أراد آخرون اللعب بانتظام للعودة إلى المشاركات الدولية مع منتخب بلادهم.
قد ينتزع الدوري التركي مكانة الدوري الفرنسي مستقبلاً


كان عام 2015 تاريخياً بالنسبة إلى الكرة التركية، حيث شهد سوق الانتقالات الصيفي تطوراً جديداً تمثّل بتعاقد كبار الدوري مع أكثر من نجم. عزّز غلطة سراي هجومه حينها ببطل العالم لوكاس بودولسكي لينضم إلى كوكبة النجوم شنايدر، ميلو، موسليرا... بقيادة المدرب الإيطالي تشيزاري برانديلي، مع الإشارة إلى أن الفريق سبق له أن ضمّ في صفوفه نجوماً كباراً في تلك الفترة، أمثال ديدييه دروغبا وكيويل.
من جهته، كان لفنربخشة في ذلك العام حصة الأسد في سوق الانتقالات، إذ استقدم المهاجم روبن فان بيرسي إلى جانب زميله السابق في مانشستر يونايتد لويس ناني، لينضم اللاعبان إلى نجوم آخرين مثل راؤول ميريليس وبرونو ألفيس ودييغو ريباس وسيمون كاير. كذلك، تعاقد بيشكتاش حينها مع النجم البرتغالي ريكاردو كواريزما الذي سبق له أن حمل ألوان الفريق عام 2010 لمدة موسمين، كما ظفر بيشكتاش بتوقيع الظهير الألماني أندرياس بيك قائد فريق هوفينهايم وحامل لقب بطولة أوروبا للشباب عام 2009 مع المنتخب.
هكذا، تعزّزت المنافسة في الدوري التركي من جديد بين القطبين الأساسيين غلطة سراي وفنربخشة مع اجتهاد فرق أخرى مثل بيشكتاش وباشاك شهير، ما ساهم في ازدهار كرة القدم التركية. لم يكن التقدم في الدوري التركي انعكاساً لتطور اقتصاد البلاد وانتعاشه فحسب، بل لوجود عوامل جوهرية أخرى؛ أهمها مشاركة الأندية المنتظمة في البطولات الأوروبية، وانخفاض الضرائب على نحوٍ كبير قياساً بالبطولات الأوروبية الأخرى، ما شجّع أكثر على قدوم اللاعبين.

محطة مهمة أوروبياً
في المقابل، قام الدوري التركي على فتراتٍ متقطّعة بتصدير وإبراز بعض المواهب الشابة، مثل جاي جاي أوكوشا الذي تألّق برفقة فنربخشة قبل الانتقال إلى باريس سان جيرمان، وفرانك ريبيري الذي لفت انتباه الأندية الأوروبية الكبرى أثناء وجوده مع غلطة سراي. تكرر هذا النمط في السنوات الأخيرة بدرجاتٍ أقل، حيث ظهر المصري محمود تريزيغيه على الساحة الأوروبية مع نادي كاسيمباشا، قبل أن ينتقل إلى أستون فيلا، في حين برز ظهير مانشستر يونايتد الأيسر أليكس تيليس لأول مرة في كرة القدم الأوروبية برفقة غلطة سراي. إضافةً إلى ذلك، شكّل الدوري التركي محطةً لتطور العديد من اللاعبين الذين جاؤوا على سبيل الإعارة، مثل مدافعي ليون جيسون ديناير ومارسال، إضافةً إلى لاعبين آخرين.
تطور الكرة في تركيا انعكس أيضاً على مستوى اللاعبين المحليين، الأمر الذي ساهم في انتشار الأتراك بين مختلف الأندية الكبرى، وقد برز منهم في السنوات الأخيرة كل من: أردا توران وهاكان تشالهان أوغلو.
كل هذه العوامل ساهمت تباعاً في نجاح الكرة في البلاد ومنافسة الدوري التركي للعديد من الدوريات الكبرى. التجربة التركية عرفت نجاحاً كبيراً، وفي ظل التطور المستمر، قد ينتزع الدوري التركي مكانة الدوري الفرنسي مستقبلاً في قائمة الدوريات الأوروبية الخمسة الكبرى.