لم يخطر في بال خافيير زانيتي بالتأكيد، ولو للحظة حالمة عندما كان يستقل الطائرة صيف عام 1995، أنّ آلاف الأميال التي يقطعها من مدينته بوينوس أيريس الأرجنتينية نحو ميلانو الإيطالية سيحصد على قدرها، لا بل أكثر، حباً واحتراماً في طريق العودة. لم يفكر زانيتي ـــــ قطعاً ـــــ حين كان يمرّ بين حشود جماهير إنتر ميلانو عند وصوله إلى ميلانو، دون أن يعيره أحد اهتماماً أو يعلم من هو هذا اللاعب (على ما روى لاحقاً)، في أنه سيخرج من قلعة «النيراتزوري» بعد 19 عاماً وصورته قد حُفرت عميقاً في القلوب وأصبح اسمه رمزاً من رموز ميلانو وقد تخطى مجرد لاعب ماهر ليصبح عنواناً يُحتذى للكفاح والاجتهاد والعطاء والبذل والوفاء والتواضع في عز الشهرة.

كيف لا يكون زانيتي مرجعاً للاستزادة من هذه الصفات، هو الذي بدأ طفولة صعبة حيث لم يكن يكتفي بتحصيل العلم في المدرسة، بل كان يساعد والده في مهنة البناء ويجول على البيوت ليبيع الحليب. وبعد أن قاده عشقه لكرة القدم إلى احترافها، فإنه لم يكتف بأن تكون الكرة مهنة له فحسب، بل دخل في تحدٍّ مع ذاته لكي يصبح نجماً، لا بل أسطورة دخلت التاريخ وستحكي قطعاً عنها أجيال وأجيال.
أن يصبح اللاعب أسطورة وقدوة ورمزاً، لا بد من علامات فارقة ومؤهلات تتخطى الموهبة. فعلى صعيد الموهبة، لا يختلف اثنان على أن «إل كابيتانو» يُعَدّ أحد أفضل لاعبي مركز الظهير في تاريخ كرة القدم لمزاياه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى من خلال قوته البدنية والذهنية التي جعلت الكل يهاب مواجهته ويخسر المعركة أمامه ويقر بعدها بكفاءته. وهو لم يكتف بذلك، بل أتقن دور القائد الذي يعرف كيف يوجّه زملاءه ويشدّ من أزرهم ويشعل في نفوسهم روح التحدي التي تميز بها، وذلك منذ أن حمل شارة القائد عام 1999.
لكن هذه الموهبة على الميدان لم تكن لتجعل من «ال كابيتانو» حبيب القلوب في ميلانو وملهماً، ليس لجماهير إنتر ميلانو فحسب، بل لكل عشاق الكرة، لو لم تكن شخصية هذا النجم استثنائية ونادرة في الملاعب. ولعل أولى ميزات شخصية زانيتي هي طموحه ومثابرته، ويكفي لاختصارها ذكر مثال واحد، حيث يُروى أن الأرجنتيني لم يتوان عن الالتحاق بالحصة التدريبية لإنتر ميلانو صبيحة ليلة زفافه. مثال، رغم طرافته، فإنه يحمل معاني وعِبَر كثيرة.
أما عن البذل والعطاء، فزانيتي مدرسة في هذا الجانب، حيث تكفي أرقامه مع إنتر ميلانو لتأكيد ذلك، إذ خاض في صفوفه 855 مباراة في مختلف المسابقات ليصبح أكثر لاعب ارتدى قميص «النيراتزوري» في التاريخ، متخطياً أسطورة الدفاع، جيوسيبي بيرغومي (757) (فضلاً عن أنه أكثر لاعب أجنبي مشاركة في تاريخ الدوري الإيطالي (612) والثاني ككل بعد باولو مالديني)، أضف إلى أنه خاض جميع مباريات إنتر في 6 مواسم متتالية، و16 موسماً بمعدل يفوق الـ 30 مباراة في الموسم الواحد.
الانضباط؟ تلك صفة يصعب أن تتوافر في غير زانيتي وتتلخص في لعبه النظيف الذي طبع مسيرته، فضلاً عن احترامه الخصوم والحكام وجماهير الفرق الأخرى، حتى وصل به الأمر إلى عدم تلقي أي بطاقة حمراء طوال 548 مباراة على التوالي، وهذا ما جعله يدخل قلوب الخصوم، قبل أبناء إنتر، ويحظى باحترامهم وإشاداتهم. الإشادات؟ ما أكثرها وأبلغها تلك التي قيلت في زانيتي، حيث وصفه، على سبيل المثال، النجم الإيطالي المخضرم اليساندرو دل بييرو بـ«اللاعب الكبير والودود والطيب جداً».
وماذا عن التواضع؟ فلا يمكن أن يتمثّل في الملاعب إلا في زانيتي، هو الذي آثر على نفسه، رغم ما وصل إليه من شهرة، الابتعاد قدر الإمكان عن الإعلام ومغريات الشهرة وحب الظهور، ما جعل لابتعاده قدْراً أو قل سحراً خاصاً يفوق سحر من هم تحت الأضواء. تكفي للدلالة على توافر هذه الصفة في زانيتي الطرفة التي رواها الأرجنتيني نفسه لبيرغومي عند قدومه إلى ميلانو، وذلك حين ابتاع سيارة وتوجّه بها إلى مركز التدريب وهو متوجس من أن يصفه زملاؤه الجدد بـ«العُجْب»، وإذا به يفاجأ وهو يركنها في المرأب بأنها الأقل قيمة وحداثة بين سواها.
يبقى الوفاء. هذه الصفة التي ستظل الأجيال تحكي عنها للاعب ارتدى قميص إنتر ميلانو طوال 19 عاماً، وعاش في صفوفه أحلى الأيام وأحلكها، ولم يقوَ حتى على مفارقته في العام الماضي عندما تعرض لإصابة خطرة وهو في الـ 40 من عمره، لا لشيء، إلا لعشقه لهذا الفريق وجمهوره، ولكي لا تكون الخاتمة لمسيرته حزينة ولا يكون الرحيل رغماً عنه، فلاعبون مثل زانيتي لا يليق بهم إلا التصفيق عند الوداع. لاعبون كزانيتي هم وحدهم من يحددون موعد الاعتزال وكيفيته.
ها نحن ندنو من هذا الاعتزال، فليكن الوداع على قدر هذا الأسطورة.




للإستمرار ع إنتر ميلانو

أكد زانيتي أنه سيبقى مع إنتر ميلانو بعد اعتزاله، من دون أن يعلن عن المهمة التي ستوكل اليه، وقال: «عندما ينتهي الموسم الحالي سأظل في إنتر، لكن لا أعرف حتى الآن المهمة التي سأقوم بها»، وأضاف «حالياً يجب أن يكون تركيزي على الأسابيع المتبقية من زمن الموسم الحالي، وآمل أن ينتهي بشكل جيد، وبعد ذلك سأتخذ خطوة تالية».