من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب مروراً بكل المحافظات اللبنانية، تنمو سباقات الركض اسرع من اي شيء آخر على امتداد المساحة الجغرافية للبلاد. ظاهرة اصبحت واضحة اهدافها، التي اتخذت معظمها منحى تجارياً بعيداً كل البعد عن الثقافة الرياضية، التي لا تأتي ضمن حسابات العديد من منظمي هذه السباقات.
للوهلة الاولى يخيّل للمراقب ان لكل بلدة سباقا، وأنّ لكل جمعية رياضية او اجتماعية سباقا ايضاً، وذلك بغض النظر عن مدى نشاطها الرياضي سابقاً او اشتراكها في نشاط من هذا النوع. وانطلاقاً من هذه النقطة، بات من السهل على اي راغب في تنظيم نشاط رياضي بأقل كلفة ممكنة اطلاق اعلان باقامته سباقا للركض، او حتى بات هذا النوع من السباقات وسيلة ناجعة لتسويق اسم جمعية ما، او لمَ لا، تحصيل بعض الارباح المالية تحت شعارات معيّنة. فهذا يركض لقضية، وآخر يحارب المرض عبر الركض، والبعض يعلن ما يحتاج اليه تحت عنوان سباق ماراثوني...
هي فعلاً «الموضة» حالياً، او بالاحرى «الورقة الرابحة» التي يستفيد منها المنظمون بالدرجة الاولى لا المشتركون في السباقات او الرياضة اللبنانية على نحو عام في ظل الفوضى ضمن هذا المجال، التي انسحبت حتى الى وسائل الاعلام، التي تُرسل اليها النتائج الفنية من دون اي ارقام تذكر، علماً ان جميع انواع العاب القوى مبنية على الارقام دون اي امر آخر.
ويؤكد ايلي سعادة نائب رئيس الاتحاد اللبناني لالعاب القوى، والمدير التقني في الاتحاد، أنه يفترض وضع حدود لما يحصل، وخصوصاً وسط كثرة التراخيص التي تحصل عليها الجمعيات في لبنان، ثم تذهب الى تنظيم ما تسميه سباقات تحت شعار الخدمات الانسانية، واذ يرى سعادة ان هناك امرا ايجابيا في هذه السباقات، وهو تشجيعها على الركض على نحو غير مباشر، يشير الى فقدان الجدية على صعيد المنافسة، موضحاً: «نصرّ كاتحاد على اصدار نتائج رسمية عبر الطرق المتبعة لكل سباق نشرف عليه، ونحن اليوم نعمل على اصدار قوانين لاجبار اي جمعية تبغي تنظيم نشاط مرتبط بألعاب القوى المرور بنا لكي يكون كل شيء تحت اشراف الاتحاد، على ان يمنع اي شخص مرتبط بعمل مع الاتحاد، من المشاركة في اي نشاط لم يحصل لأجله على الضوء الاخضر من قبل الاتحاد».
بدوره، يذهب روجيه بجاني رئيس نادي «إنتر ليبانون»، الذي يضم ابرز رياضيي العاب القوى في لبنان، الى التوضيح بأن القوانين «تفرض على اي مشترك في سباق تبدأ مسافته من 10 كلم، ان يكون منتسباً الى ناد اتحادي، لكن هذا الامر يجري تجاهله». ويضيف: «يحق لأي كان تنظيم سباق دون العودة الى الاتحاد إذا كانت مسافة السباق اقل من 10 كلم، وهو امر لا عيب فيه برأيي، لكن المعيب هو التضخيم الاعلامي لبعض السباقات على نحو لا يحترم هذه الرياضة، بحيث يحكى عن اعداد هائلة من العدائين في الوقت الذي تكون فيه الغالبية العظمى من المشاركين تقوم بالمشي على الطرقات».
واذ يوافق بجاني على ان الحدث الاكبر الذي شجّع على انتشار هذا النوع من النشاط، اي ماراثون بيروت، قد تحسّن تنظيمياً وفنياً، فان الشق الفولكلوري يبقى طاغياً بقوة على المشاركة الجدية، لكن ملاحظته تأتي في اطار فني ايضاً، وتحديداً لناحية «دفع اموال كثيرة لجلب عدائين اجانب بدلاً من استثمارها في تطوير عدائين محليين وتعريف الرأي العام عليهم ما يشجع الجيل الصاعد على الاقتداء بهم».
وبطبيعة الحال، فان النجاح الاعلامي لماراثون بيروت وقبضه على حصة كبيرة من الاعلانات التجارية لدرجةٍ لم يبقَ في السوق سوى الفُتات للرياضات الاخرى، شجّع جمعيات كثيرة على تسويق اسمائها من بوابة سباقات الركض، التي تؤمن لها اطلالات اعلامية مجانية، ولبعضها ارباحاً مادية تحت خيمة الشعارات التي رسمتها من دون معرفة احد، اذا ما كانت فعلاً هذه الاموال توظّف لمصلحة القضية المختارة، علماً ان بعض السباقات تقام وسط دعمٍ بميزانيات كبيرة تؤمن كل المستلزمات المادية للنجاح، ومنها دفع تكاليف الجهاز الفني والحكام المنتدبين من قبل الاتحاد اللبناني للاشراف على السباق.
وحتى تنظيم هذه «الحركة الفولكلورية الماراثونية»، بحيث بات كل سباق يسمى «ماراثون» من قبل منظميه، تبقى الثقافة التجارية - التسويقية تفوق ثقافة الركض الحقيقية التي يحكى عن وجودها، وهي الغائبة عن غالبية السباقات المُنظّمة. وربما الارقام التي عرفها «سباق السيدات» الاخير في شوارع بيروت هي الدليل الحسّي، بحيث انه من اصل 9117 عداء وعداءة ركض 836 منهم فقط لقطع مسافة الـ 10 كلم، لكن لم تتجاوز نسبة العدائين الفعليين والجديين بينهم الـ 20%.