تدريجياً تتحول ملاعبنا الرياضية الى ساحات لتصفية الحسابات السياسية، والتراشق بالأحقاد الطائفية، وتأكيد الاختلاف في مجتمعٍ ينادي بالتعايش ظاهراً ويعيش عكسه باطناً. كلامٌ لم يعد خافياً على أحد، حيث لا يمكن التلطي بعد اليوم خلف الشعارات الإنشائية التي لا تقدّم أو تؤخر في بلادٍ استقبلت «أصولية» طارئة تتمثل في التطرف الرياضي الذي قد يقضي على شيء بدا جميلاً في فترة ما، وترك أملاً بإمكان ولادة جيلٍ شاب مختلف تماماً عن ذاك الذي لا يزال متأثراً بالحرب الاهلية، والذي يعيش فصولها حتى اليوم، وربما يحنّ الى استعادتها.
وإذ لا يمكن القول إن العنف في الملاعب العالمية أو اللبنانية هو أمر جديد وطارئ، إلا أن ما يرافق هذا العنف أو الاسباب التي جرّت الى أحداث غير رياضية، تأتي أحياناً في إطارٍ خطر، كتحوّل الملاعب الى حلبات مصارعة تستمد وقودها من الهتافات السياسية الطائفية المتأججة، والتي تخطت كل الحدود والخطوط الحمر أخيراً.
وإذا انطلقنا في تحليلٍ علمي من سلسلة مواجهات الحكمة والرياضي التي رست على مأساة بعد المباراة النهائية الرابعة، يقول علم النفس إن الشكل التنافسي القاسي على مدار مباريات مكثفة، يُشعر الطرف المهزوم برغبة في الانتقام فيجدها في مباراة الردّ، وبما أن عناصر الفريق الخاسر عادةً لا يمكنهم استخدام العنف، يتحوّل الجمهور الى أداة لتحقيق هذه الغاية، لكون المشجعين هم جنود الاحتياط الداعمين للاعبين الاساسيين على أرض الملعب.

التوتر الدائم
في شخصية اللبناني تلمسه في «الأبواق الغاضبة» على
إشارة السير
لكن الأسباب تبدو أبعد وأدق في مكانٍ ما، بحسب أستاذ علم الاجتماع وعميد المعهد العالي في الدكتوراه في العلوم الانسانية الدكتور طلال عتريسي الذي يرى أن المشكلة الاضافية في الرياضة اللبنانية هي أن الفرق محسوبة على طوائف وأحزاب، «لا بل أصبحت جزءاً من النشاط الحزبي لخلق النفوذ او المحافظة عليه، والدليل أنه حتى السياسيون الجدد يعمدون مباشرة الى تسويق أنفسهم عبر الملاعب الرياضية، وبالتالي فإن ما نراه حالياً من عنف هو ترجمة لتقسيم الأندية الرياضية وفق هذه الصفات».
إذاً السياسة تضرب الملاعب مجدداً، فانعكاساتها تبدو واضحة على المواطن اللبناني وتترك أثراً في حياته الاجتماعية لفترةٍ ليست بقصيرة، إذ حتى الاعلام يساهم في هذا الامر، والدليل التوتر الذي كان حاضراً بقوة قبل تشكيل الحكومة، فجاءت تصاريح السياسيين لتبثّ المزيد من الحقد في نفوس الناس الذين احتفظوا بها بعد هدوء العاصفة الحكومية والاتفاق الذي حصل، فانصرف السياسيون الى مشاريع أخرى، بينما ذهب المواطنون من متابعي الرياضة الى تظهير ما يختزنونه من غضب في ملاعب مختلفة، وتحديداً في كرة السلة، وهو أمر حصل طوال الموسم، لا فقط في المباراة المشكلة بين الحكمة والرياضي.
ويوافق عتريسي على هذه المقاربة، لا بل يذهب الى نقطةٍ أبعد حيث يفصّل قائلاً: «الشريحة الأكبر من الجمهور الرياضي هي شابة، والتحريض الاعلامي سار في مستوى تصاعدي منذ 10 أعوام، وبالتالي فإن الفتى الذي كان في العاشرة من العمر وقتذاك أصبح في العشرين حالياً، وبذلك فإن العنف ضُخّ في داخله من دون شعوره به».
من هنا، يمكن اعتبار أن بذرة العنف زرعت في أشخاص عديدين من خلال التربية السيئة القائمة على الاختلاف، وهذا ما بدا جليّاً في الهتافات الطائفية والسياسية التي أطلقها جمهورا الحكمة والرياضي على مسامع الحاضرين والمشاهدين عبر شاشات التلفزة، ضمن ما يسمى «سيكولوجية الجماعة»، حيث تشعر مجموعة من المشجعين بالقوة عندما يصرخون معاً في الملعب الذي يشكل فضاءً واسعاً لإخراج الغضب اليومي المتراكم والكبت الناتج من ضغوطات الحياة الاجتماعية بمختلف أشكالها، وهو أمر يعيشه اللبناني يومياً، وقد يلمسه أي كان على الطرقات حيث يمكن إعطاء مثل بسيط على التوتر القائم في شخصية الكثير من الناس عبر «الأبواق الغاضبة» التي تطلق من السيارات من دون صبر لثوانٍ قليلة فور إضاءة اللون الأخضر على إشارة السير!
لبناني ما قبل الحرب، اللبناني المهذب، لبناني البلد السياحي صاحب الشخصية اللطيفة، يبدو أنه فُقد من الوجود. فصحيح أن الحرب الاهلية انتهت منذ زمنٍ بعيد، لكن ذيولها لا تزال حاضرة في تنشئة الاجيال المتعاقبة، التي ربما تعكس طموحات أولئك «المقاتلين» القدامى بتصرفاتٍ ميليشيوية لا تمت الى الرياضة أو الى ملاعبنا بصلة.




الفوتبول المجرم الأكبر

لطالما ألصقت بكرة القدم صفة «المجرم الأكبر» في الرياضة اللبنانية، حتى إن جماهيرها أبعدت في الفترة الأخيرة تحت هذا العنوان، لكن ما أفرزه المشهد الأخير للبطولات المختلفة، ترك انطباعاً بأن الفوتبول بريء من هذه التهمة الموجّهة اليه. ويقول المدير العام لوزارة الشباب والرياضة زيد خيامي، الذي عاصر اللعبة لأكثر من ربع قرن، وكان عضواً في الاتحاد اللبناني
(1985-1994) ورئيساً لنادي المجد: «موسم الكرة مرّ من دون إشكالات، لكن غالباً ما التصقت فكرة سيئة بكرة القدم لأن أي مشكلة فيها تأخذ أصداء أوسع بفعل حجم شعبية اللعبة». ويذكّر: «أحداث العنف التي حصلت سابقاً في الكرة اللبنانية لم تصل يوماً الى مستوى الحدّة التي نشهدها في العالم المتحضّر».