كان باكو ألكاسير في السابعة عشرة من عمره عندما خاض مباراته الأولى على ملعب «ميستايا» بقميص فريقه فالنسيا أمام روما الإيطالي في بطولة كأس «نارانغا» الودية، لكن أمسية 12 آب 2011 لن ينساها هذا الشاب الاسباني طيلة حياته، ستبقى عالقة في ذهنه ما بقي قلبه يتنفس، وهي كذلك. ففي تلك الأمسية سجل هدفه الأول مع فريقه، لكن في تلك الأمسية أيضاً عاش الصدمة الكبرى.
فخلال توجهه إلى خارج الاستاد مع عائلته - التي كانت تؤازره من المدرجات لتعيش الحلم الفتيّ مع نجلها، وإذا به، في دقائق معدودات، يتحوّل إلى الكابوس الأسوأ - وقع الوالد أرضاً بعد تعرضه لذبحة قلبية. عبثاً حاول الطاقم الطبي لفالنسيا إسعافه طيلة 30 دقيقة. لفظ الأب أنفاسه الأخيرة على احد مداخل ملعب «ميستايا» تحت ناظرَي نجله. انكسر الحلم فجأة.
تجربة فظيعة ولا تصدق، عاشها الشاب في انطلاقة مسيرته. كان من الممكن جداً أن تجهض ولادته في الملاعب في مهدها، وان تحبطه تماماً، اذ من غير السهل على الإطلاق ما مرّ به، وخصوصاً بالنسبة إلى سنه الصغيرة. غير أن ما حصل كان العكس تماماً، وهذا إثبات أولي لجوهر هذا الشاب والتصميم والمثابرة والصلابة التي يتمتع بها، فقد استمد ألكاسير من هذه الذكرى الأليمة قوة لتحدي ظروف الحياة مهما قست، هو المترعرع أصلاً في بيئة اسبانية فقيرة، في مدينة «تورينت»، حيث يروي في إحدى المرات «نحن عائلة متواضعة جداً، من الطبقة الفقيرة. نحن عمال نجهد لتحصيل قوت يومنا». كتب الشاب بعد تلك الذكرى العنوان العريض لحياته في الملاعب: «سألعب من أجل روح أبي، وسأهديه أهدافي». بات الآن معلوماً لماذا يرفع ألكاسير دوماً رأسه وسبابتَيه إلى السماء ويغمض عينيه عند تسجيله الأهداف، ففي تلك اللحظة يستذكر والده.
توفي والد ألكاسير
على أحد مداخل «ميستايا» في المباراة الأولى لنجله


في تلك اللحظة ينفصل ألكاسير عن كل الضوضاء التي تحيط به، وينصت إلى كلمات من أفق بعيد لا يسمعها أحد غيره: إمضِ يا ولدي إلى حيث فرحك الدائم.
فرحة ألكاسير ترسمها أهدافه التي يدأب على تسجيلها ليهديها إلى والده. هو الهداف بالفطرة، على ما وصفته صحيفة «ماركا» أخيراً بعد تسجيله هدفاً لمنتخب إسبانيا في مباراته الرابعة بقميصه أمام لوكسمبور في تصفيات كأس أوروبا 2016 لتصبح حصيلته 3 أهداف متتالية، بعد الأول أمام مقدونيا والثاني أمام سلوفاكيا في التصفيات عينها، ليتفوّق على الهداف التاريخي لـ «لا فوريا روخا»، دافيد فيا، ووصيفه راوول غونزاليس، اللذين فشلا في تحقيق هذه المحصلة.
منذ الصغر، وعند التحاقه بمدرسة فالنسيا عام 2005 لفت ألكاسير الأنظار إليه. صحيفة «إل باييس» تنقل عن مكتشفه في فريق الناشئين في مدينته، مهاجم فالنسيا السابق وكشافه حالياً خوان سانشيز، وصفه ألكاسير عندما كان في الـ 12 من عمره بـ «الفتى الذي ينصت جيداً، والمتواضع والمجتهد جداً».
هكذا تدرج ألكاسير في الفئات العمرية لفريق «الخفافيش»، حيث برز بحاسته التهديفية العالية من خلال قدرته تحديداً على التمركز داخل منطقة الجزاء وخداعه المدافعين لاقتناص الأهداف، وكذا في المنتخب الوطني، حيث لعب لمنتخبات دون 16 و17 و18 و19 و20 و21 عاماً، وأحرز لقب هداف بطولة أوروبا دون 17 عاماً، وأحرز مع منتخب دون 19 عاماً اللقب الأوروبي مرتين، وكان الهداف الأبرز في كل هذه المنتخبات.
ويبدو واضحاً ان هذه التجارب عادت بالفائدة الكبيرة على ألكاسير وصقلت موهبته وكانت بوابته نحو الفريق الأول لفالنسيا، وخصوصاً بعد رحيل روبرتو سولدادو، وكذلك مع المنتخب الوطني، حيث يعيش اليوم أحلى الأحلام. ففي الدوري الإسباني سجل ألكاسير 4 أهداف وصنع مثلها في 7 مباريات، ما جعله مطمعاً للعديد من الاندية الكبرى.
وبالتأكيد، فإن البروز الأخير لألكاسير مع «لا روخا»، حيث نجح في استثمار الفرصة التي منحه إياها المدرب فيسنتي دل بوسكي على أكمل وجه، جعلت اسم الشاب البالغ 21 عاماً يكبر، ليس في اسبانيا وحدها، بل في كل أوروبا أيضا.
بات ألكاسير الآن مطالباً بما هو أكثر، وهو، على ما يبدو، ماض في رفع سبابتَيه إلى السماء تحية لوالده، عند رسم فرحه في الملاعب.