في مرسيليا، ذكريات كثيرة على وسع بحرها. ذكريات لفريق كرة رسم الفرحة كثيراً على وجه المدينة المستريحة عند شواطئ البحر المتوسط. ذكريات فريق كان واجهة المدينة الجنوبية، مدينة الصيادين والكادحين والمهاجرين. لكل هؤلاء حمل هذا الفريق يوماً بسمة على اتساع همومهم التي كان يفيض بها بحر مرسيليا. فريق استمد قوته وعنفوانه من تعب الصيادين.
فريق كان رمز مدينة ومصدر فخرها بين مدن فرنسا، لا بل أوروبا. من يمكن أن ينسى مرسيليا أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات؟ مرسيليا فابيان بارتيز وبازيل بولي وديدييه ديشان ومارسيل دوسايي وفرانك سوزيه والألماني رودي فولر والكرواتي ألان بوكسيتش والغاني أبيدي بيليه وغيرهم الذين حققوا المجد للمدينة، لا بل لفرنسا برمتها، بلقبها الوحيد في دوري أبطال أوروبا عبر النصر التاريخي على ميلان الايطالي في نهائي ملعب «أولمبيا شتاديون» في ميونيخ عام 1993. مرسيليا جان - بيار بابان وأهدافه التي لم تشهد لها ملاعب فرنسا مثيلاً. مرسيليا الأفراح والليالي الملاح في ملعب «فيلودروم»، مرسيليا صاحبة الحظوة على باقي مدن فرنسا وتحديداً على باريس الثرية.
مذ تلك الفترة عاشت البلاد على وقع التحدي بين مرسيليا وباريس سان جيرمان فريق العاصمة الأول. تحدٍّ تخطى الإطار الرياضي تماماً الى الاجتماعي. هو تحدٍّ بين مدينة الجنوب الكادح ومدينة الشمال الغني، بين المدينة الثانية سكانياً والعاصمة الأكبر في البلاد، بين مدينة العمال والصيادين ومدينة الأرستقراطيين... بين هموم البحر في مرسيليا ونرجسية البرج العالي في باريس.
رسم الفريقان مذّاك صورة الكرة الفرنسية، إلى أن جاء ليون ليبدّل المشهد تماماً في السنوات السبع الأولى من الألفية الجديدة.
تقدُّم مرسيليا على باريس سان جيرمان في الصدارة يحمل دلالات ومعاني عميقة



على أي الأحوال وبعد عام 2010 واللقب الأخير لمرسيليا، أخذ التحدي بعداً آخر بين الفريقين، وبالتأكيد بين المدينتين. اتضح للباريسيين أن لا حل إلا بالمال الكفيل بأن يعيد الفريق إلى الطليعة ويُحكم القبضة على الكرة في البلاد، وصولاً إلى الأحلام الأوروبية التي لا تزال عالقة في حلق باريس منذ أن منح مرسيليا البلاد لقبها الأوروبي الكبير الوحيد. أراد الباريسيون بكل ما أوتوا من مال أن يبدلوا وجه التاريخ الكروي الفرنسي الذي يقرّ بريادة مرسيليا. رمت باريس بثقلها كاملة في جيب القطري ناصر الخليفي، أما مراكب مرسيليا فأبت أن تركب هذه الموجة.
كان مفهوماً إزاء هذه «الهجمة» المجنونة وتسلح سان جيرمان بترسانة من أهم النجوم في العالم أن تقف مرسيليا المصدومة عاجزة في البدء أمام «بطش» الباريسيين بالكرة الفرنسية وسيطرتهم على اللقب في العامين الماضيين.
كل التوقعات في الصيف الماضي كانت تشير إلى استمرار السيطرة الباريسية على الدوري الفرنسي هذا الموسم، أو بالأدق فإن بقاء اللقب باريسياً كان مسألة محسومة بنظر كثيرين، وبأن طموح سان جيرمان أبعد من ذلك ويصل إلى الكأس الأوروبية الأغلى. لكن مرسيليا، صاحبة التاريخ وعنفوان الصيادين، أبت أن تظل في موقف المتفرج، كان لا بد، رغم قلة الحيلة، أن يهوج بحرها بعد هدوء عميق، كان لا بد أن تنتصر لذاكرتها.
نحن الآن في الجولة الثامنة عشرة من «ليغ 1»، أي في خضم حماوة المنافسة، والنتيجة أن مرسيليا في المركز الأول وسان جيرمان ثانياً بفارق نقطة. مشهد، بالتأكيد، يحمل دلالات كثيرة ومعبّرة، ليس أقلها أن الكرة أكبر من المال، وأن الكرة تعطي من يعطيها وتحب من يكدح فيها.
ليس بقليل فعلاً في هذه المرحلة أن يتفوّق فريق كمرسيليا على فريق النجوم المليونية سان جيرمان، وهو يضم تشكيلة فرنسية بمعظمها وليس فيها أكثر من 3 لاعبين معروفين محلياً هم الهداف اندريه - بيار جينياك وديميتري باييه والغاني أندريه أيوو، دون نسيان طبعاً الجرعة المعنوية الهائلة التي ضخّها المدرب «المجنون» والمتحمس، الأرجنتيني مارتشيلو بييلسا، في جسد مرسيليا.
مشهد ترتيب الصدارة حالياً في «ليغ 1» هو، بالتأكيد، انتصار للكرة أولاً ومفاهيمها، وتالياً للدوري الفرنسي، الذي ضلّ الطريق مع سان جيرمان إلى روح التنافس والعنفوان، واذ بمرسيليا الآن يعيده إلى السكة الصحيحة.