البرازيل عادت. هذه الكلمة التي يمكن الخروج بها بعد ليلة «ماراكانا» التاريخية. هي بالفعل تاريخية: أرادها الاسبان موعداً يضيفونه الى سجلاتهم بوضع البرازيل على لائحة ضحاياهم الكبار والتتويج بكأس القارات للمرة الاولى، وأين؟ في الملعب الشهير. غير ان البرازيليين هم من كتبوا التاريخ ورقصوا. كتبوا ان السحر لا يندثر في أرض «السامبا». يستريح قليلاً ليعود اكثر اشراقاً من ذي قبل. يغفو هنيهة ليستعيد جماله. صحيح ان البرازيل تاريخ في كرة القدم ولم تعد بحاجة لكتابة التاريخ.
لكن أمسية 30/6/2013 (بالتوقيت البرازيلي) أرّخت لانبعاث البرازيل من جديد بعد فترة من التخبط لم تشهد الكرة هناك لها مثيلاً، اذ لا ضير من القول ان فترة الثمانينيات كانت مخيبة لـ«السيليساو» على مستوى النتائج، لكن البرازيل حينها كانت، للمفارقة، من الأجمل في تاريخها، غير ان الفترة بين 2005 و2013 كانت بمثابة كابوس على البرازيليين، فلا نتائج ولا سحر.
السحر البرازيلي عاد اذاً في ليلة «ماراكانا» ليغمر الكرة الأرضية من أقصاها الى أقصاها. كان لزاما على البرازيليين ان يعودوا الى ممارسة سحرهم. فالكرة من دون سحر البرازيل لا طعم لها. والأحداث الكبرى من دون سحر البرازيل لا رونق لها.
كرة القدم تحب البرازيل، تعشق سحرها. هذا السحر الذي لا مثيل له في العالم. سحر الكرة على شاطئ الـ«كوباكابانا». سحر الكرة بين أقدام الفتية السمر في أزقة ريو دي جانيرو، هؤلاء الذين لا يركلون الكرة بل يراقصونها. هو سحر الـ«ماراكانا». لذا، اختارت الكرة المكان والموعد المناسبين لتؤكد حبها للبرازيل ولتشهد على عودة سحر الـ«سيليساو».
المكان طبعاً هو ملعب «ماراكانا» معقل كرة القدم، أما الموعد فهو في مواجهة من لبسوا لفترة لباس السحرة: الاسبان.
وضع البرازيليون اذاً، في ليلة الماراكانا، النقاط على الحروف، ومعها اوصلوا الرسالة الى الجميع. قالوها صريحة: لا مفعول لـ«التيكي تاكا» في أرضنا، تلك التيكي تاكا التي قضت على الجميع وكانت تسن أسنانها لقضم البرازيل أيضاً. قالوها صريحة: ولّى زمن الهيمنة الاسبانية المطلقة، وعاد السحر البرازيلي. فعلها البرازيليون بعد ان عجز كل الكبار عن فعلها: بالثلاثة رقصوا على أشلاء الاسبان.
البرازيل أسدلت الستار اذاً كما حلمت وربما أكثر، استناداً الى نتائج المباريات الودية الأخيرة، على كأس القارات: لقب رابع وثالث على التوالي، انهاء هيمنة اسبانيا على الكرة العالمية، عودة الى الساحة الكروية من أوسع الأبواب، وبطبيعة الحال الاستعداد الجيد لكأس العالم التي تستضيفها الصيف المقبل.
الكلمة الجوهرية بالنسبة للبرازيليين اذاً هي: كأس العالم. اذ صحيح ان الفوز بكأس القارات يبدو مهماً لاستعادة الثقة، وهذا ما حصل بالفعل، علماً ان التاريخ يحدثنا أن المرات الثلاث السابقة التي شهدت تتويج الـ«سيليساو» بكأس القارات لم يشهد تتويجه في العام التالي بلقب كأس العالم (وهذا ما ينطبق على فرنسا أيضاً)، وان كان هذا الامر لا يمكن الركون إليه ويبقى أكثر في اطار لعبة الأرقام والتواريخ والباحثين عنهما، الا ان المونديال هو الاهم، وهذا الـ«سيليساو» هو، بالضبط، ما ينشده البرازيليون لمونديالهم.
ما يبدو واضحاً ان منتخب البرازيل هذا ليس بقليل على الاطلاق، اذ إنه اختار التوقيت المناسب ليقدم لنا جيله الجديد، او قل سحرته الجدد، بعد فترة اكتنفها الغموض ورُسمت حولها العديد من علامات الاستفهام. ولا يخفى ان هذا كله ما كان ليحدث لولا وجود رجل يفهم اللغة المحكية بين السحرة. فعل ذلك قبلاً مع رونالدو وريفالدو وروبرتو كارلوس وكافو والبقية في مونديال 2002، وها هو يعيد الامر نفسه مع نيمار وأوسكار وباولينيو وغيرهم، والحديث طبعاً هنا هو عن: لويز فيليبي سكولاري. اذ من المهم القول ان مسارعة البرازيليين الى إقالة المتخبط مانو مينيزيس والاتيان بسكولاري كانت «ضربة معلم» من قِبلهم، اذ ان الأخير يمتلك من الحنكة والتجربة والخبرة ما يمكنه من التعامل مع المواهب الصاعدة والتكيف مع المواقف الصعبة.

فلولا العمل على الشق النفسي والمعنوي قبل الخططي الذي قام به «بيغ فيل» لما كان لنيمار ورفاقه ان يظهروا بالصورة التي بدوا عليها في كأس القارات. فسكولاري هو السبب الاول في تفجر موهبة نيمار وتقديمه بصورة الملهم والقائد الذي يحمل المسؤولية في المناسبات الكبرى رغم صغر سنه. ولولا سكولاري لما اكتشفت البرازيل لاعب ارتكاز او «رقم 10 وهمي» بمواصفات عصرية كباولينيو. ولولا سكولاري لما بات للبرازيل مهاجم «رقم 9» قناص هو فريد، الذي رغم استحالة وضعه بمقارنة مع نجم مثل رونالدو، الا انه يبدو جيداً ومناسباً أقله للفترة الحالية وهذا بفضل الدعم المعنوي الذي استمده من «بيغ فيل» من خلال منحه الفرصة أكثر من مرة.
غير أن المدهش في الـ«سيليساو» الحالي هو اتزانه في كافة المراكز وخصوصاً في قوته الدفاعية، فقبلاً كانت المقولة سائدة بأن قوة البرازيل في هجومها فقط، بمعنى أنها اذا تلقت هدفين او ثلاثة نظراً لضعف دفاعها، فإنها قادرة على تسجيل أربعة وخمسة وتحقيق الالقاب. غير ان الفريق الحالي بإمكانه تسجيل ثلاثة اهداف وعدم تلقي أي هدف، ولنا في سؤال الاسبان تحديداً عن ذلك كمثال ليس الا.
صحيح أن الاسبان قادرون على النهوض وهم يمتلكون مواهب صاعدة عديدة وحتى ان الكبوة الحالية تبدو مفيدة وكفيلة بأن تعيد الحماسة للاعبي «لا فوريا روخا» بعد ان اصابتهم الانتصارات المتتالية بـ«داء» استسهال الخصوم كي لا نقل بالملل، وصحيح ان الألمان قادمون بقوة الى المونديال، وصحيح أن الأرجنتينيين يمتلكون ليونيل ميسي، وصحيح أن الطليان خطرون دائماً في التحديات الكبرى، الا ان البرازيليين ساحرون وقويون ومخيفون. مخيفون الى أبعد الحدود.