كقوس القزح الذي رسمته السماء خلف المدرج الجنوبي المكتظ لملعب المدينة الرياضية، هكذا كانت ألوان المحتشدين لتشجيع منتخب لبنان أمس. لكن هناك، أمام هيبة المستطيل الأخضر، كلمة واحدة تردد صداها في المحيط المجاور: لبنان، لبنان، لبنان. بهذه الكلمة استقبل الجمهور اللبناني رجاله، في مشهدٍ لم يكن أشد المتفائلين بإمكان نهوض كرة القدم اللبنانية من جديد يتوقع أن يراه؛ إذ بعد الضربات التي تلقتها هذه اللعبة طوال خمسة أعوام، حيث صوّر البعض جمهورها كأنه آفة المجتمع اللبناني، والأداة التي قد تثير الحرب الأهلية مجدداً، كان ضرباً من الجنون مجرد التفكير في رؤية «المشهد الأوروبي» في شوارع العاصمة بيروت أو في مدرجات ملعبها الرئيسي.


وهنا «المشهد الأوروبي» لا يعني الأداء الذي قدّمه اللاعبون على أرض الملعب، بل التفاعل الحاصل في البلاد مع الدعوة إلى مؤازرة منتخب الوطن للسير خطوة إضافية في الطريق إلى تحقيق حلم التأهل إلى كأس العالم 2014.
و«المشهد الأوروبي» يعني تحوّل المباراة إلى محور كل حركة في المنطقة؛ فهناك من وسط المدينة باتجاه نفق سليم سلام، وصولاً إلى السفارة الكويتية، كانت كل سيارات الأجرة في أحسن أيامها، أي مليئة بالركاب. وهذا أمر يؤكده «أبو حسن» الذي لم يكن ممتعضاً من زحمة السير؛ إذ يقول: «هيدا شغل، خمسة نازلين وخمسة طالعين، كلّن عايزين يروحو على الملعب. الله يخليلنا الفاتبول يللي رزقنا اليوم».
أما سائقو الباصات، فتعاملوا مع منافسيهم بوديّة؛ إذ لا حاجة إلى التسابق على الركاب؛ فالكل أكل حصته ويشق طريقه باتجاه الملعب. ركاب، منهم من اتفق مع صاحب الباص ودفعها «مقطوعة» ذهاباً وإياباً، ومنهم من جمع رفاق الدراسة واختار وسيلة نقل جماعية لعيش الأجواء بحسب ما يقول ماجد الذي يبلغ الرابعة عشرة من العمر والآتي إلى الملعب بلباس المدرسة ومع حقيبته الثقيلة الوزن المليئة بالكتب، وهو يؤكد: «لو ما سمحولنا نروح قبل الدوام أكيد كنا هربنا اليوم».

كان من السهل معرفة وسائل النقل المتجهة إلى «ميدان المعركة» كما أطلق عليها أحدهم؛ فبالنسبة إلى البعض، على اللاعبين أن ينزلوا إلى أرض الملعب «يا قاتل يا مقتول»، فهذا كان جوابهم وهم يخرجون من نوافذ الباص متأبطين الأعلام اللبنانية. مجموعة منهم كانت تهتف «فاهيتا، طاووق، رقّصهم يا معتوق». يبدو أن الشباب لم يتنبّهوا إلى أن حسن معتوق سيغيب عن المباراة بسبب الإيقاف!
المشهد نفسه طوال المسير، سيارات وباصات تطلق العنين لأبواقها، من دون أن يخشى سائقوها إمكان تلقي الشتائم من المنزعجين؛ فالكل أصلاً ذاهبون إلى الملعب لإحداث أكبر كمٍّ من الضجيج يهدف إلى التأثير على الكوريين. الصورة تتغيّر بعض الشيء في الباحة المحيطة بالمدينة الرياضية؛ فقد حضر بائعو الأعلام والمياه لعرض بضائعهم على الجماهير الوافدة، وهو مشهد لم تعرفه الملاعب منذ فترة طويلة جداً؛ إذ انتفى سبب حضور هؤلاء البائعين في الفترة السابقة بسبب قرار منع الجمهور.
أحد هؤلاء البائعين، ويدعى أحمد بشير، أراد أن يعرض معلوماته الاقتصادية على هذا الصعيد، فقال: «الدولة في لبنان لا تعير أي اهتمام للرياضة؛ إذ يعتقدون أنها لا تفيد البلاد في شيء. انظر إلى كرة القدم، فهي تحرك العجلة الاقتصادية. ألن نستفيد من مبالغ هائلة إذا تأهلنا إلى كأس العالم؟ ألا يستفيد أمثالي من مباريات كهذه؟ منذ خمسة أعوام لم نسترزق بألف ليرة من خلال كرة القدم، بل كنا ندفع إيجارات الملاعب لنلعبها ونملأ أوقات الفراغ. أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء». أما عند سؤاله عما إذا كان سيدخل إلى المدرجات لحضور المباراة فأجأب: «إذا بعت كل شي أكيد. أنا عامل حساباتي، ويبدو في كتير عطشانين».

بدوره، يرفض زميل له الكشف عن اسمه، ويرفض أكثر اعتباره تاجراً بالأعلام اللبنانية؛ إذ يجاهر بوطنيته قائلاً: «الراية اللبنانية لا تثمّن. وجودي هنا ليس للتجارة، بل للإسهام في رسم أهم مشهد وطني. الزعماء يبيعون بلادهم، أما نحن فنعمل على رفع علمها عبر وضعه في يد كل لبناني». ولا يخفي هذا البائع سروره من الطلب الكبير للجمهور، وعكس هذا الأمر كان يقهره، وتحديداً في كأس العالم 2010 عندما نصب بسطة لبيع أعلام البلدان المشاركة، حيث نفدت كل البضاعة ما عدا العلم الموجود في الوسط، أي العلم اللبناني. وهنا يقول: «إنشاء الله ما منعرض ومنبيع غيرو سنة 2014».

جنون المدرجات

الدخول (بصعوبة) إلى المدرج الجنوبي يعطي انطباعاً وكأن لبنان بلد كروي بامتياز؛ إذ ليس هناك أي دليل على أن الجماهير هُجّرت أو هَجَرت يوماً تلك الكراسي الزرقاء التي ذاب غالبيتها بفعل العوامل الطبيعية من شمسٍ حارقة وأمطارٍ هاطلة. الكلّ كانوا هناك: رجال وصبية وشابات، وحتى عائلات بكامل أفرادها، فالواجب الوطني ينادي «وهذا أقل ما يمكننا تقديمه»، بحسب ما يقول كامل سرحان.

ربّ العائلة الخمسيني جلب كل أولاده وزوجته إلى الملعب، وعند السؤال عن كيفية التفرّغ من العمل يجيب: «ما في شغل، المنتخب هوي شغلنا اليوم». وهنا يتدخل نجله هادي فيقول: «ما معنا حقّ تنكة بنزين، وجايين من بعيد، بس الشباب بيستاهلو، لبنان عم يلعب وهيدا بلدنا». أما حسن الواقف بجواره فيعقّب بأنه قَدِم من النبطية بسيارة أجرة، ويأسف لأن إحدى المدارس لم تسمح بخروج طلابها قبل انتهاء الدوام، فيما كان 17 باصاً في انتظارهم لنقلهم إلى بيروت.
على وقع الصيحات الهادرة في المدرجات: «العب يا لبنان، العب يا لبنان»، يدخل اللاعبون إلى أرض الملعب. هنا تصبح الحماسة خارجة عن السيطرة، ويسقط التناغم بين مجموعتين من المشجعين؛ إذ إن صفاً كاملاً بدأ بالهتاف لنادي النجمة، ولم يستطع طوال فترات اللقاء أن يحوّل الموشحات النجماوية إلى هتافات وطنية. لكن هذه الهتافات ذابت طبعاً وسط الأهازيج الأخرى المشجعة لكل اللاعبين، لا للاعبي النجمة وحدهم. هذا المشهد أشار بوضوح إلى أن جمهور النجمة لا يزال حاضراً ولا يزال الأكبر ولا يزال نبض الجمهور الكروي في لبنان.

الجميل في المشهد أن الجمهور كلّه تقريباً حفظ أسماء اللاعبين وأرقامهم، ما عدا بعض القادمين بفعل تأثرهم بمحيطهم المتحمّس للحضور إلى الملعب لمشاهدة المباراة؛ إذ وصل أحدهم متأخراً ليسأل: «أي فريق هو لبنان؟». أما آخر، فقد سأل: «إذا فزنا اليوم فسنتأهل إلى الدوري العالمي (لا كأس العالم)». لكن الأجمل أنه مهما اختلفت الثقافة الكروية لهؤلاء، فإنهم رفضوا ترك الملعب رغم الأمطار التي هطلت بغزارة. ثقافة بدت حتى مختلفة في التصرفات عن تلك التي كنا نراها؛ إذ إن رمي القوارير الفارغة باتجاه أرض الملعب أصبح تعبيراً عن الفرحة، وهذا ما حصل عند احتساب ركلة جزاء للبنان، لا عند احتساب الحكم أخرى للكوريين!

التصرفات بدت مختلفة أيضاً عند وصول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان؛ إذ تحمّست مجموعة وصاحت «أبو هادي»، فنهض أحدهم بلهجة بيروتية قائلاً: «كلنا إخوة يا شباب. بلا السياسة، وخلينا نشجّع لبنان». وهذا ما حصل.
باختصار، لم يتحوّل منتخب لبنان فقط من «مكسر عصا» في آسيا إلى ماردٍ في وجه عمالقتها، بل أصبح «عجيبة» التصفيات المونديالية. ويوم أمس كان تاريخياً بكل ما للكلمة من معنى؛ فقد عادت الكرة اللبنانية إلى الحياة، والوحدة الوطنية التي ماتت في الساحات السياسية ولدت من جديد في المدينة الرياضية.



نكات كروية

ما إن انتهت المباراة حتى بدأ تداول النكات عبر الهواتف النقالة، ونقتطف منها:
■ ردود فعل السياسيين:
السيد حسن نصر الله: ربحنا كوريا، وسنربح ما بعد بعد كوريا
وئام وهاب: كوريا وصرمايتي سوا
سمير جعجع: أكيد أكيد أكيد ربحنا، شي أكيد
وليد جنبلاط: لبنان كوريا لبنان مش عارف كنّو لبنان أو كوريا... يا كوريا يا قرداً لم تعرفه الطبيعة
■ عاجل: ميسي «أتمنى ألّا نلعب في المجموعة نفسها مع لبنان في المونديال
■ البرازيل سترقص السامبا على أنغام «تي رشرش تي رشرش» في كأس العالم 2014.