لم تعد مدينة دوسلدورف الألمانية موجودة على خارطة كرة القدم الألمانية كما كان الحال عليه في فترة غير قصيرة خلال القرن الماضي، فلا فريق في الدرجة الأولى يحمل اسم هذه «المدينة الغربية»، ولا فريق مرشحاً لتمثيلها في «البوندسليغا» قريباً. لكن رغم ذلك كان ملعب دوسلدورف المسرح الذي اختاره الاتحاد الألماني للعبة لاختيار القمة الودية بين منتخبي ألمانيا وإسبانيا مساء الجمعة الماضي. اختيار فيه معانٍ كثيرة، ولا يعرف أهميته سوى المتابع عن كثب لطريقة عمل الاتحادات الوطنية وتواصلها مع قواعدها الجماهيرية المتجاوبة مع كل نداء وطني. فهذه الجماهير تخلع ألوان أنديتها في «يوم الفيفا» وترتدي لوناً واحداً هو لون المنتخب الوطني حيث لا تعلو أي راية على الراية الوطنية.
(عدنان الحاج علي)

والجماهير نفسها التي نتحدث عنها، وبغض النظر إذا كانت مناطقها ممثلة على أعلى مستوى، تطلب أن يزور المنتخب مدينتها ليخوض مباراة فيها، وهو مطلب محق بالنسبة إلى الاتحادات الوطنية الكبرى، التي تحمل منتخباتها من مدينة إلى أخرى في كل مناسبة ليشارك الجمهور حب الوطن والارتباط به، فالمنتخب هو للجميع لا لمدينة معينة، لذا لا تنحصر مبارياته في العاصمة أو في ملعب أحد الأندية الكبرى، وهو ما يعزز الروح الوطنية تجاه المنتخب وارتباط الجمهور به. هي قاعدة متعارف عليها في البلدان التي تنتمي إلى عالم كرة القدم، لكن أين نحن في لبنان من كل هذا؟

«...لقد باعونا»
في الواقع، الجمهور اللبناني بعيدٌ كل البعد عن هذا المشهد الوطني. وكان بالإمكان التأكد من هذه المقولة من خلال جولة على بعض الحاضرين في المشهد الجماهيري الضخم خلال «الكلاسيكو» الأخير بين النجمة والانصار على ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية، وهو مشهد لن نرى شبيهاً له اليوم خلال مباراة منتخبنا الوطني مع الضيف الماليزي. جمال، وهو مشجع نجماوي، لا يرى سبباً لترك عمله كما يفعل عادة خلال مباريات النجمة، للذهاب إلى الملعب ومؤازرة المنتخب الوطني. هو يحكي عن المنتخب وكأنه لا يعني له شيئاً، وذلك رغم اعترافه بأنه لم يفوّت مناسبة إلا وحضر فيها حاملاً العلم اللبناني خلال ذاك المشوار المميز لمنتخبنا في تصفيات كأس العالم 2014.
لكن ماذا تغيّر اليوم؟ هو يجيب بالقول: «لقد باعونا، لم ننسَ بعد تلك الخيبة الكبرى. كنا نشجع المنتخب بكل ما نملك من قوة، لكن تبيّن لنا أنهم خدعونا طوال الوقت».
لا يبدو السبب الذي أعطاه الشاب الثلاثيني مقنعاً، رغم أن القاصي والداني يعرف تماماً أن تلك «الجريمة الوطنية» التي ارتكبها بعض اللاعبين تركت أثرها السلبي على متابعة المنتخب لفترة غير قصيرة، وضربت بشكلٍ مباشر ذاك الرابط بينه وبين القاعدة الجماهيرية، لكن ليس بعد الآن وبعد مرور زمنٍ غير قصير على الواقعة، وبعد أن تمّ «تنظيف» المنتخب تماماً. في الجولة نفسها على عددٍ من المشجعين ستجد جواباً مشتركاً لدى عددٍ غير قليلٍ منهم، وهو جواب خطر جداً يعكس مدى البعد الموجود بين جمهور الفوتبول في لبنان والمنتخب و«راعيه»، أي الاتحاد اللبناني. هو سؤال لا جواب أصلاً، إذ يردّ غالبيتهم على السؤال حول إمكانية تكرار المشهد الجماهيري الكبير بالسؤال الآتي: «لماذا نشجع منتخباً تابعاً لاتحادٍ لا يرحم نادينا أو جمهوره؟».
إجابة خطيرة بلا شك، فهي تعكس أولاً صورة لطالما كانت موجودة في الكرة اللبنانية، حيث الجمهور هو جمهور أندية بالدرجة الأولى، وهذه الأندية أصلاً لم تشحن يوماً جمهورها وطنياً، بل كانت تنجر خلف بعضها البعض في بيانات إنشائية تدعو فيها الجمهور للحضور إلى الملعب، وتشجيع المنتخب في بعض المناسبات المهمة دون سواها. وكذلك، تعكس هذه الصورة مدى التباعد الموجود بين القاعدة الجماهيرية والمنتخب الوطني والقيّمين عليه حيث لا رابط أو روابط بعد انفراط عقد ما يسمى «الرابطة الوطنية» التي حملت مهمة التعبئة الجماهيرية، وهي المهمة التي يضطلع بها بعض الأشخاص الآن بمجهود فردي دون سقف رسمي أو هيكلية منظمة.
إذاً هو مشهد ليس بالغريب أبداً. ليس بالجديد سماع كلام من هذا النوع، فبعض الجمهور هتف ضد المنتخب لعدم إعطاء لاعبه المفضل شارة القيادة مثلاً، أو قاطعه بسبب عدم استدعاء هذا اللاعب أو ذاك من ناديه المفضل…

الأندية مقصّرة
لا يمكن إبعاد الأندية عن مسؤولية وطنية يفترض أن تكون منوطة بها، فما مناداة البعض منها بالتعرض للظلم إلا سبباً لإبعاد الجمهور عن المنتخب أيضاً بحكم نظرة البعض بأن المنتخب هو للاتحاد. وهذه المسألة هي خطأ جسيم وغير منطقي. وهنا تكمن مهمة الأندية في الترويج لرسالة خاصة، وهي أن المنتخب يعنيها، ووجود منتخب قوي يعني أندية قوية أيضاً، وتحديداً على صعيد عكس صورة قوية عن اللعبة ومن يمثلها خارجياً. من هنا تبدو الأندية الكبرى والجماهيرية وكأنها غير معنية، أولاً في تخفيف الاحتقان بين الجمهور والقيّمين على اللعبة في محطات عدة، أو في الفصل بين تشجيع النادي وتشجيع المنتخب الذي يعدّ واجباً وطنياً قبل كل شيء. كما على الأندية التفكير في مصلحة المنتخب وإعطاء مثل للجماهير من خلال هذا الأمر، وذلك من خلال توفير حماية للاعبين الدوليين قبل أي استحقاق مهم، لا كما حصل في حالة نجم العهد محمد حيدر أخيراً، إذ علمت «الأخبار» من مصادر خاصة أن اللاعب شعر بنوع من «الانزعاج» في عضلات الفخذ قبل وخلال المباراة أمام السلام زغرتا، لكنه أشرك في اللقاء وبقي على أرض الملعب حتى بات غير قادر على مواصلة اللعب.

مسؤولية الاتحاد
لا يمكن إبعاد الاتحاد عن الحديث في المشهد الحاصل. فهذا الاتحاد عمل في فترة سابقة على نحوٍ لافت على تسويق الحسّ الوطني، وذلك من خلال حملات إعلانية وإعلامية، غزت الطرقات والصحف وشاشات التلفزة. تقاطرت الجماهير إلى الملعب آنذاك، بينما شعر آخرون بأن المنتخب للجميع لا حكراً لجهة معينة أو تابعاً لها، فكان الزحف الجماهيري الضخم باتجاه المدينة الرياضية من كل المناطق اللبنانية، وقد حمل إليها في تصفيات مونديال 2014، أشخاصاً لم يزوروها سابقاً قبل أن تحركهم تلك الحملات المنادية بوجوب المشاركة في السعي نحو بلوغ حلم لم يتحقق وقتذاك. لكن فجأة تغيّر الكثير، ولم تعد أي خطة تسويقية من هذا النوع حاضرة، رغم أنها ضرورية لتنشيط الجمهور وربطه في كل مرة بالمنتخب، وخصوصاً أن المباريات الدولية تقام في فترات متباعدة لا تسمح بشدّ الرابط يومياً بين الطرفين المعنيين. إذاً هي مسؤولية جماعية يتحملها أكثر من طرفٍ على أكثر من مستوى وصعيد. لكن أيّاً كانت الأسباب ومهما تبدلت الظروف تبقى الأولوية للمنتخبات الوطنية، التي بطبيعة الحال هي نتاج الحالة الكروية المحلية الجماهيرية والفنية. وعلينا أن لا ننسى دائماً أننا في لبنان، وأن الأسباب «الرياضية»، تبقى نقطة في بحر الخلاف الاجتماعي والسياسي الكبير بين اللبنانيين. لكن هذا يفتح المجال أمام سؤال آخر، قد يكون أشد حرجاً بكثير.