شكّل تاريخ 26 شباط 2013 منعطفاً في مسار كرة القدم اللبنانية. ففي ذلك اليوم، صدرت العقوبات بحق 25 شخصاً في قضية كانت ما تزال مجهولة للجمهور اللبناني ـ المراهنات ـ وبدأ معها الحديث عن «نقطة سوداء» ولم ينته حتى هذه اللحظة. وعلى ما يبدو أنّ الأمور لن تتوقف عند هذا الحدّ، مع «تغلغل» المفهوم أكثر، حتى بات لاعباً أساسياً في الكثير من المباريات. وقد توسّع هذا المفهوم وانتقل من الأحياء الشعبية والملاعب ليصل اليوم إلى المدراس. باختصار، وصلت «سوسة» المراهنات إلى جيل المستقبلبين حارة حريك والشياح وزقاق البلاط وبرج حمود خيط رفيع يرسم مسار كرة القدم اللبنانية، واسمه «المراهنون». لا هم لاعبون مسجّلون على كشوفات الأندية لدى الاتحاد اللبناني لكرة القدم ولا يرتدون ملابس رياضية. هم، ببساطة، مواطنون من المجتمع اللبناني يحبون لعبة كرة القدم، لكنهم تخطوا حاجز الحبّ.. وبعضهم تخطى الخطوط الحمر، فتحوّلت اللعبة بالنسبة لهم إلى ما يشبه «طاولة قمار»، يهدرون أموالهم عليها في معظم الأحيان، وفي أوقات قليلة يكسبون.
الموضوع أكبر من اتحاد محلي ويحتاج الى سلطات قضائية لملاحقة المرتكبين


قد يصدمك أحد الأشخاص حين يخبرك عن حديث دار بينه وبين ابن شقيقه وابن شقيقته. الصدمة بدأت عندما قال الصغير «عمو بتعرف انو رفيقي ربح 300 ألف ليرة من ماتش برشلونة؟». كيف؟ يجيب الصغير بعفوية بالغة «عن طريق المراهنة على المباراة». أين؟ «في المدرسة».
قبل خمس سنوات، لم يسمع الكثيرون بالمراهنات، حتى جاء زلزال التلاعب في الكرة اللبنانية على صعيد الأندية والمنتخب، فاتحاً العين على التشوّه الذي أصاب اللعبة وأسّس لواقعٍ أصبحت فيه بعض المباريات تُلعب في مكانين: على أرض الملعب وفي مكاتب المراهنات.
هي ليست مكاتب بالمعنى الصحيح والرسمي، خصوصاً أن المراهنات غير شرعية في لبنان. لذلك، هي تحتاج الى واجهة تستتر خلفها، وقد تكون هذه الواجهة مقهى أو صالوناً للحلاقة أو أي مركز عمل آخر قد تتحوّل «غرفته الخلفية» إلى مكتب مراهنات. ويقصد هذه «المكاتب» أشخاص من مختلف الطبقات كي «يلعبوا»... على المباريات.
كل تفصيل في مباراة كرة قدم يمكن المراهنة عليه: النتيجة. عدد الأهداف. التسجيل في الأشواط. البطاقات الصفراء والحمراء، وحتى الركنيات. كلها مادة للمراهنة.
BET365 هو الموقع الأشهر. عالم من الخيارات لتبديد الأموال أو الربح السريع. فقد فتح هذا الموقع الباب أمام أطراف عدّة كي تجني الأموال بأسهل الطرق و«أقذرها» من خلال التلاعب. وقد دخل فيها لاعبو كرة القدم أيضاً، فلم يعد هؤلاء بحاجة لوسيط أو طرف آخر كي يجنوا الأموال بطريقة غير شرعية. يكفي أن يتفق ثلاثة لاعبين (يفضّل أن يكون الحارس من ضمنهم) على مباراة فريقهم التي أدرجت على موقع المراهنات كي يحققوا أرباحاً طائلة. ثلاثة أو أربعة لاعبين يراهنون إما على عدد الأهداف أو البطاقات أو نتيجة الشوط الأول أو الركنيات ويقومون بتنفيذ ما راهنوا أو اتفقوا عليه مع صاحب المكتب، ليقبضوا الأموال بعد المباراة على قاعدة «لا مين شاف ولا مين دري».
لا تبدو العملية سهلة لمن ليس لديه خبرة في هذا المجال. مصطلحات ومواقع وأرقام تأخذك إلى المتاهة. وهذا سيدفعك للاستعانة بـ«خبير» كي يشرح لك الموضوع. يمكنك الاستعانة بهاني (اسم مستعار)، فلديه خبرة كبيرة في هذا المجال وسيأخذك في جولة على المكاتب وحتى قد يشركك في «اللعب» على مباراتين دوليتين لاختبار ما يحصل بعيداً عن الشرح النظري.
يبدأ هاني حديثه بشرحٍ مفصّل عن المواقع وطريقة المراهنة وعن المباريات، سواء كانت لفرق لبنانية في البطولات المحلية أو في كأس الاتحاد الآسيوي. ينتقل بعدها للحديث عن «الأرباح»، فيقول ضاحكاً «عمِلت عشرة آلاف دولار السنة الماضية من ورا نادي الصفاء». يتحدّث عن لاعب (عاد وانتقل من ناديه) كان على علاقة بمكاتب المراهنات، حيث جرى الاتفاق على عدد من المباريات في كأس الاتحاد وقام بالتنسيق مع لاعبين في الفريق، بينهم حارس المرمى (أيضاً انتقل من النادي). الركنيات كانت «نجمة» الاتفاق، وأول مباراة كانت مع الحد البحريني في المنامة، حيث كان المطلوب حينها حصول أكثر من 12 ركنية.
هاني، الخبير، راهن على المباراة بـ500 دولار وكسب 1800. انتقل إلى مباراة أخرى. مباراة للصفاء مع القوة الجوية. ارتفع العدد المطلوب من الركنيات الى 15 وأيضاً تحققت «الكورنرات» وجنى هاني أموالاً كثيرة. مرة ثالثة، راهن هاني على المباراة، لكن خلافاً بين «اللاعب الملك» ومكتب المراهنات قبل المباراة، أفسد الاتفاق فجاءت «التعليمة» بسحب الأموال.
يعتبر هاني أن «اللعب» على المباريات هواية ومن باب التسلية تأتيه بـ« المصاري»، وإن كانت «حرام». ولأن الوضع كذلك «عم بصرفهن عالسفر». يتابع «السنة الماضية سافرت أنا وصاحبي على بلد أوروبي وحضرت مباراة لفريقي المفضل واشتريت بطاقة المباراة بألف دولار وكلفتني السفرة خمسة آلاف».
لا تنتهي الحكايا مع هاني. ثمة الكثير لقوله عن المكاتب المنتشرة بين الشياح وزقاق البلاط وحارة حريك وبرج حمود. نطلب زيارتها وتجربة المراهنة، فنتفق على موعد لجولة على الدراجة النارية في زقاق البلاط. جولة تكشف حجم تغلغل هذه المكاتب في الشارع اللبناني. هي من «معالم» زقاق البلاط السياحية. هنا مقهى وهناك صالون للحلاقة وفي شارع آخر مقهى آخر.
في الزقاق، مقهى بباب خلفي. يقول هاني: «هذا هو الأقوى في المنطقة وصاحبه لديه علاقات مع لاعبين لبنانيين يتفق معهم على الأمور المتعلقة بالمراهنات، وقد جرى إقفال هذا المقهى ثلاث مرات بالشمع الأحمر ولكن في كل مرة كان يُعاد فتحه، خصوصاً أن والد صاحب المقهى قوي ولديه معارف كثر».

المكتب يراهن على ألف وفي حال فاز المراهن يدفع المكتب من جيبه الخاص قيمة الرهان


تصل الى مقهى آخر للمراهنة على إحدى المباريات. يدخل هاني ويقول لصاحب المقهى ـ المكتب «بدنا نلعب». يعطي الوكيل هاتفه إلى هاني بعد فتح موقع Bet365.. يختار هاني مباراتين: برشلونة وملقة، وتشيلسي وكريستال بالاس. يراهن على فوز ملقة وكريستال بالاس بقيمة 10 آلاف ليرة.
تصعق لحجم المردود الذي ممكن أن تحصل عليه في حال أصاب الرهان. فكلما كان الاحتمال صعباً كان المردود أعلى. بكل بساطة، في حال فاز ملقة وكريتسال بالاس تتحول العشرة آلاف ليرة إلى مليون وثمانين ألفاً يأخذ المكتب 10% منها.
تدفع عشرة آلاف وتقبض مليوناً. أكثر من راتب شهر كامل لقسم كبير من اللبنانيين. تنتهي التجربة ويخسر الفريقان وتذهب العشرة آلاف. انتهت «في أرضها» لأنها كانت على سبيل التجربة، لكن لأشخاص كثيرين كانت المرة الأولى في دوامة تسحب المراهن رويداً رويداً نحو الغرق في بحر من الديون والقضاء على المستقبل. فكم من لاعب ومراهن تلطخت سمعته وأصبح مدار همس «الله يعينوا مبتلي بالمراهنات».



عمو بتعرف انو رفيقي ربح 300 ألف ليرة؟

مع الحد البحريني في المنامة كان المطلوب حصول أكثر من 12 ركنية

اشتريت بطاقة المباراة بألف دولار وكلفتني السفرة 5 آلاف

تتحول 10 آلاف ليرة إلى مليون وثمانين ألفاً يأخذ المكتب 10% منها


الجوع والأندية مسؤولان
يعتبر أحد «المخضرمين» في الرهانات أن الجوع هو المسؤول رقم واحد عن دخول المراهنات إلى الأندية. لاعبون جائعون مستعبدون بتواقيع أبدية ورواتب زهيدة. يعطيك مثلاً عن لاعب العهد محمود العلي. فهو يعتبر مع رامز ديوب والإداري فادي فنيش أول من أدخلوا هذه الآفة الى الكرة اللبنانية في عام 2008 وجرى إيقافهم لمدى الحياة اتحادياً، بناء على توصية من لجنة التحقيق التي ألّفها الاتحاد أواخر عام 2012 برئاسة الأردني فادي زريقات. يتذكّر المخضرم قصة العلي، فيقول: «محمود العلي ابن طرابلس كان معدماً مادياً، فقد كان يأتي بالفان إلى التمرين ووضعه المادي سيئ». فجأة «أصبح المعدم مادياً يملك سيارة فخمة وهواتف خلوية ويعيش نمط حياة لا يتناسب مع راتبه، فلماذا لم يسأل المسؤولون في النادي أنفسهم من أين له هذا؟». وهنا، يعتبر هذا المتابع الكروي أن نادي العهد نجح هو أول من لُدِغ من هذا الموضوع. ولذلك، فتح تحقيقاً «وسلّم الاعترافات الى الاتحاد ونجح في إبعاد شبح التلاعب عن النادي عبر أمرين: إشباع اللاعبين ومراقبتهم». إذا، هي مسؤولية الأندية ومن بعدها اتحاد اللعبة، ومن خلفهما الدولة اللبنانية. فتلك الأندية الهاوية تشجّع اللاعبين على التلاعب بسبب الرواتب المتدنية من جهة وبسبب التهاون مع هذا الموضوع من جهة أخرى. فكم من نادٍ علم أن لاعبين لديه تلاعبوا بنتائج مباريات وغضوا الطرف، أو أوقفوهم ثم أعادوهم إلى الفريق؟
أما اتحاد اللعبة، فيتحمّل المسؤولية في التعاطي مع الملف من بدايته واللجنة التي ألّفها والعقوبات التي اتخذها قبل حسم سنوات. أو في عدم الضغط على الدولة للتحرك ومساعدة الاتحاد في محاربة هذه الآفة. فهذا موضوع أكبر بكثير من اتحاد محلي ويحتاج الى سلطات قضائية لملاحقة المرتكبين. لكن إذا كانت هذه المكاتب منتشرة بهذا الشكل و»على عينك يا تاجر» من دون حسيب أو رقيب، ويتم إقفال بعضها ومن ثم يعاد فتحه فكيف سيتم استئصال هذا «المرض» من المجتمع اللبناني؟

كيف تربح المكاتب؟
من الخارج، لا تبدو الصورة واضحة حول سبب انتشار مكاتب المراهنات في المناطق اللبنانية. فكيف يربح هذا المكتب من مراهنة شخص على مباراة عبر موقع عالمي؟ الجواب هنا ليس بالشكل الخارجي، وإنما بالتجربة التي ستكشف لك آلية الربح. فلنأخذ على سبيل المثال المراهنة على مباراتي برشلونة مع ملقة، وتشيلسي مع كريتسال بالاس. حينها، كانت قيمة الرهان عشرة آلاف ليرة. لكن فعلياً صاحب المكتب راهن بألف ليرة فقط. فكيف إذا الموضوع؟
المكتب يراهن على ألف، وفي حال فاز المراهن يدفع المكتب من جيبه الخاص قيمة الرهان (كانت في هذه الحالة مليون ليرة) أي يكون قد خسر 990 ألف ليرة. لكن في حال الخسارة وهو ما حصل فقد كسب المكتب تسعة آلاف ليرة، كونه لم يراهن سوى بألف ليرة وقبض عشرة آلاف. مع عدد رهانات كبير معظمها خاسر، ينكشف حجم الأموال التي يجنيها أصحاب المكاتب من المراهنات ويتوضح سبب انتشار هذه المكاتب كالفطريات.
وهناك نوع مراهنات مختلف يكون فيه المكتب وسيطاً بين المراهن وشركة مراهنات بحيث يفوز المكتب على الجهتين من الشركة ومن المراهن أما الخسارة فعلى الطرفين فقط.

فرحة في زقاق البلاط
عمّت الفرحة منطقة زقاق البلاط، أول من أمس، بعد «كمية» الأموال التي ربحها المراهنون عقب مباراة الجيش والعهد ضمن مسابقة كأس الاتحاد الآسيوي. فالمباراة التي فاز فيها العهد 4 مقابل 1، شهدت كل ما يتمناه مراهن. فوز أحد الفريقين. تسجيلهما للأهداف. التسجيل في شوطي المباراة. كمية كبيرة من الركنيات. الأخيرة كانت المصدر الأساسي للربح، خصوصاً أن الرهان كان على حصول أكثر من 14 ركنية، يعني أن كل دولار يراهن به سيعود الى صاحبه عشرة دولارات. هنا، في هذه الحالة «الليرة بعشرة، ولو أن مراهناً قد راهن بعشرة آلاف دولار لكان سيفوز بمئة ألف دولار»، خصوصاً مع تسجيل 16 ركنية. هل كان هناك شيء مدبّر؟
في زقاق البلاط، هناك قناعة أن لا شيء مدبّراً. الصدفة هي كل شيء. فلم يكن هناك أي معلومة عن وجود شيء محضّر، كما أن الأداء والصورة من البحرين لم تكن توحي بأن هناك تواطؤاً من قبل بعض اللاعبين. الصدفة تلعب دوراً في بعض الأحيان. لكن يأتي رأي آخر يعتبر أنه من الصعب على فريق واحد أن يرتكب 15 ركنية لوحده. كلّه في خانة التكهنات ولا شيء مؤكّداً.
مباراة الأنصار والوحدة السوري أمس أيضاً كانت مدرجة على موقع Bet365 وبنفس شروط الركنيات لمباراة الجيش السوري والعهد، لكنها لم تتخط الركنيات الـ14 ركنية. هكذا، خسر المراهنون كلهم، فالمبارات سجّلت فيها فقط 12 ركنية.