تشير السجلات إلى أنّ 11 مدرباً أجنبياً تناوبوا على تدريب منتخب لبنان لكرة القدم، مقابل مجموعة قليلة من المحليين لم يتجاوز عددهم بحسب هذه السجلات أصابع اليد. وبعيداً من المصري محمود سعد (1997-1998) الذي يمكن القول إنه أشرف لفترة غير قصيرة على المنتخب (كان للسوري محمود قويض «أبو شاكر» مرور سريع على رأس الجهاز الفني)، جاء كل المدربين الأجانب من أوروبا، وبدا أنّ لكلّ واحدٍ منهم عقليّة مختلفة وفلسفة مغايرة.يقول المنطق إنّ هذه المسألة غير مستغربة أبداً كون كل مدربٍ أوروبي اضطر إلى العمل بحسب الواقع الكروي الذي عرفه في لبنان، وهو واقع يتبدّل بشكلٍ سريع كون اللعبة لا تسير عبر أنديتها أو منتخباتها على ثوابت واضحة، بل تعيش «كل يومٍ في يومه»، فيتبدل المستوى وفقاً للأجيال الذاهبة والحاضرة، ويتأثر المنتخب في كل ظرفٍ من هذه الظروف.
ما بين الماضي والحاضر يمكن الخروج بالعديد من الإثباتات حول هذا الكلام، إذ لا يخفى أن أجيالاً ذهبية مرّت على المنتخب وبعضها يفوق بموهبته الكثيرين من أبناء الجيل الحالي، لكن ما بين عمل المدربين وما بين المستوى المرتفع للخصوم وقتذاك، كان من الصعب الخروج بإنجازٍ ما، وأقلّه التأهل إلى كأس آسيا من بوابة التصفيات، وهو الأمر الذي تحقق في عهد رادولوفيتش، ولهذه النتيجة أسبابها.
الأخير جاء بعد المدرب الإيطالي جيوسيبي جيانيني، وأظهر بشكلٍ سريع حنكته بعيداً من الملعب، إذ إن سرّ نجاحه كان ما خطّط له ونفذه خارج المستطيل الأخضر، وذلك بعدما كان قد درس بسرعة واقع اللعبة في لبنان وما تختزنه وما تفتقده أيضاً، باحثاً عن العثرات قبل الأسس التي يمكن البناء عليها. من هنا انطلق «رادو» في عمله ليحقق المطلوب، وهو إنجاز يُحسب له لا بسبب تأهله إلى كأس آسيا. تسلم رادولوفيتش منتخباً مفككاً وفاقداً الثقة بالنفس كونه في 14 مباراة مع جيانيني حقق 3 انتصارات فقط. كما أن غالبيّة لاعبي المنتخب كانوا قد وصلوا إلى نهاية المشوار الدولي، فباتت الخيارات لناحية لاعبي الخبرة الذين بإمكانهم صناعة الفارق محدودة جداً. رادولوفيتش عمل شخصياً على التواصل مع لاعبين من أصولٍ لبنانية، محاولاً إقناعهم بالدفاع عن ألوان «منتخب الأرز»، ومنهم لاعب نابولي الإيطالي أمين يونس الذي اختار في نهاية المطاف تمثيل ألمانيا فائزاً مع «المانشافت» بكأس القارات عام 2017.
لم يعرف لبنان هوية كروية واضحة ولو أنه اعتمد غالباً على مدربين أوروبيين


وفي هذا الإطار، لطالما ردّد مدرب المنتخب في جلسات خاصة بأنه لو وافق يونس على طرحه لكان لبنان منافساً على إحدى بطاقات المربع الذهبي في كأس آسيا! ومن هذه النقطة، كان بالإمكان لَمس الإيمان الكبير لدى رادولوفيتش باللاعبين اللبنانيين، ولناحية طريقة عمله وإقناعه للاعبيه باعتناقها. هو لم يفوّت فرصةً لمراقبة البعيدين قبل القريبين، ففي إحدى المرات ترك فجأةً، جلسة خاصة عندما أُبلغ من قبل أحد أصدقائه في كرواتيا بأن باسل جرادي سيبدأ إحدى مباريات هايدوك سبليت أساسياً، فبحث عن رابطٍ للمباراة لمتابعة اللاعب رغم أنه كان معتكفاً عن الالتحاق بالمنتخب في تلك الفترة. إذاً ومع مواكبة الاتحاد لطلباته واكتشافاته في الخارج، والعمل على استعادة جنسيّة لاعبين مهمّين مثل جرادي والأخوين ملكي، تأمّنت غالبية طلبات رادولوفيتش، بينما كانت خيبته الوحيدة هي عدم إعطاء الضوء الأخضر للمكسيكي المولد خيرونيمو أميوني للانضمام إلى لبنان، في وقتٍ كان فيه حاجة ماسّة للمنتخب المفتقد إلى رأس حربة هداف.
وفي ظلّ تأمين ما طلبه، بقي العمل على الأرض منوطاً به، فكان ما ميّزه عن غالبية من سبقه من المدربين الأجانب، هو الأسلوب الذي يتماشى مع قدرات لاعبيه، إذ صحيح أنّ لبنان قد يكون يفتقد إلى هوية كروية واضحة بشكلٍ عام، لكن الآلية أو النظام المتّبع في طريقة اللعب، يبدو واضحاً، ويمكن لأيّ لاعب تطبيقه اتّباعاً لتعليمات المدرّب. من هذه الواقعية والمشكلة الهجومية، كانت المنظومة الدفاعية التي ينطلق منها كل شيء، فجاءت سلسلة المباريات الـ16 من دون هزيمة، وارتفعت المعنويات بإمكان تحقيق شيءٍ ما في كأس آسيا، وهي المسألة التي آمن بها رادولوفيتش دائماً، فوافق على تمديد عقده في مرحلةٍ أولى رغم عدم إخفائه امتعاضه من بعض التفاصيل. كما أنه أصرّ على التواجد مع المنتخب في البطولة القارية وإكمال ما بدأه رغم حصوله على أكثر من عرضٍ مغرٍ، أحدها من أوزبكستان.
وبما أن فترة مكوث رادولوفيتش في لبنان لم تكن قصيرة، يبدو الرجل مطالباً بالمزيد، وذلك انطلاقاً من أنه إذا ما وُضع جانباً تولي الألماني ثيو بوكير المنتخب لفترتين (2000-2001 و2011-2013) وقيادته في 41 مباراة (أعلى رقمٍ لمدربٍ مع لبنان)، فإن المونتينغري مع الويلزي تييري يوراث (1995-1997) هو أكثر المدربين الأجانب بقاءً مع المنتخب لفترةٍ متواصلة (بحسب السجلات يعدّ رادولوفيتش ثاني أكثر المدربين تحقيقاً للانتصارات مع المنتخب (12 فوزاً في 32 مباراة) بعد يوراث صاحب 13 فوزاً في 27 مباراة)، ما يعني أنه حصل على الوقت الكافي لترجمة ما خطّط له وما عمل عليه، إلى نتائج جيّدة، وتحديداً في كأس آسيا حيث لا يفترض أن يكون لبنان لقمة سائغة لخصومه الذي فرض الاحترام عليهم قبل وصوله لمواجهتهم، فتوقّع الكثير من النقاد أن يلعب دور «الحصان الأسود» بين الأحصنة الكثيرة الجاهزة والطامحة للعب الأدوار الأولى.