حسناً، تجرّأ ليونيل ميسي وقال ما لم يجرؤ أي لاعبٍ آخر على قوله حتى الآن في ما خصّ كوبا أميركا. كلام قائد منتخب الأرجنتين عن الفساد لم يكن بالشيء الجديد المحيط بهذه البطولة، إذ إن الشبهات حامت حولها غالباً منذ زمنٍ بعيد بفعل الفساد المستشري في اللعبة هناك في أميركا الجنوبية حيث تلعب «المافيات» دورها الكبير.في النسخة الحالية لكوبا أميركا، لم تغب علامات الاستفهام عن الصورة العامة للبطولة القارية، ليس فقط بسبب الحكم الإكوادوي رودي زامبرانو الذي أشعل غضب ميسي والأرجنتين بقراراته المثيرة للجدل في مباراة الدور نصف النهائي أمام البرازيل، بل بسبب كل ما أحيط بالبطولة في الجوانب التحكيمية، وتحديداً بين صافرات الحكام وتقنية الفيديو المفترض أن تكون مساعدةً لهم، لكنها في حالاتٍ كثيرة تحوّلت من نعمة الى نقمة على بعض المنتخبات.
ويكفي ذكر اسم الحكم الذي أدار المباراة النهائية لوضع علامة تعجب ومثلها استفهام حول الشفافية المفترضة، أو إذا صح التعبير نظافة الخيارات المعتمدة من قبل اتحاد أميركا الجنوبية. وهنا الحديث عن الحكم التشيلياني روبرتو توبار، الذي كان قد أثار جدلاً واسعاً لدى جماهير قطبَي الأرجنتين بوكا جونيورز وريفر بلايت، عند اختياره لقيادة إحدى مباراتي النهائي الشهير بينهما في كوبا ليبرتادوريس، والذي أثار ضجةً كبيرة في البلاد. أما السبب فيعود الى أن توبار نفسه كان أحد أبطال قضية فساد كبرى نالت من سمعة كرة القدم التشيليانية عام 2012، حيث تمّ إيقافه لمدة 8 أشهر بسبب ما عُرف بقضية «نادي البوكر» الذي كان أحد أعضائه.
و«نادي البوكر» هذا ضم أبرز حكام اللعبة في كرة القدم التشيليانية، اضافةً الى رؤساء أندية، لتنشأ شبكة مراهنات على المباريات، ويصبح «المليونير»، وهو لقب توبار، ركناً أساسياً فيها، وقد قيل ان الحكام الخاسرين في «البوكر» أجبروا على قيادة مباريات عُهدت الى زملائهم الرابحين في اللعبة، وذلك وفق تعليمات معيّنة، وشروط منها دفع الخاسرين تكلفة سفرهم.
لكن هل كان الحكم الباراغوياني ماريو دياز دي فيفار يعمل بأوامر محددة، عندما طرد ميسي أمام تشيلي بشكلٍ مريب وغريب؟ طبعاً لا يمكن الجزم حول هذه الواقعة، لكن كلام «البرغوث» حول معاقبته على خلفية تصريحاته بحق «الكونميبول» عقب اللقاء امام البرازيل، لا يمكن اسقاطه ايضاً، ذلك ان تاريخ الاتحاد الاميركي الجنوبي المرتبط بكوبا اميركا مليء بالفساد والإدانات.
العودة الى اعوامٍ قريبة خلت تؤكد كل الكلام الذي قيل، وخصوصاً بعد ادانة ثلاثة رؤساء سابقين للاتحاد الاميركي الجنوبي بملفات فساد تتعلق بكوبا اميركا، اشهرهم الاوروغوياني أوجينيو فيغيريدو الذي قَبِل رشى بملايين الدولارات من شركة تسويق أوروغويانية في إطار توزيع حقوق التسويق لأربع نسخ من مسابقة كوبا أميركا، وهو ما حَرم الشركات الأخرى من المنافسة. كما رتّب اعضاء في اللجنة التنفيذية في عهده صفقة وصلت الى 100 مليون دولار في ملفٍ مشابه!
قبله كان الباراغوياني نيكولاس ليوز الذي حصل على رشوة مليونية ايضاً، لمنح حقوق نقل كوبا اميركا لإحدى الشركات لمدة 20 عاماً، وهو تحوّل لاحقاً الى هدفٍ لاتحاد أميركا الجنوبية نفسه، والذي شكاه بتهمة غسل الأموال.
تهمٌ لم يستطع اي من المسؤولين عن «الكونميبول» الهروب منها، وخصوصاً بعد اعتراف رجل الاعمال البرازيلي، اللبناني الأصل جوزيه حويلا (توفي في أيار 2018) بأن شركته دفعت أقله 151 مليون دولار في عمليات مرتبطة بالكرة الاميركية الجنوبية، وأدين لاحقاً بقضايا مختلفة وعلى رأسها تبييض الأموال.
برازيلي من أصل لبناني كان الرأس المدبّر لملفات فساد كوبا أميركا


إذاً بالنسبة الى القيّمين على كوبا اميركا، تعتبر هذه البطولة بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهباً، فهذا الحدث يعدّ واحداً من اكثر الأحداث الكروية متابعةً حول العالم، اذ تشير الاحصاءات الى انه في عام 2011 وصل مجموع متابعي المباريات الى 5 مليارات نسمة، وهو رقم ارتفع بلا شك منذ آخر احصاء ووصولاً الى النسخة التي اقيمت اخيراً في البرازيل.
من هنا ارتفعت القيمة المالية للبطولة بشكلٍ رهيب بين نسخة وأخرى تلتها، فهي اذ بلغت 1.7 مليون دولار في عام 1987، وصلت الى 17 مليوناً في عام 2011، ثم قفزت الى 75 مليوناً بعد 4 أعوام، وإلى 112.5 مليوناً بعد عامٍ واحد فقط!
وبحسب تقريرٍ سابق لمكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي (أف بي آي)، وصلت الأرباح التي حققتها الشركة التي امتلكها حويلا من حقوق احدى نسخات كوبا اميركا الى 29 مليون دولار، وهو ما يبرّر سبب دفعها رشى طوال 30 عاماً، حصل عليها ليوز وفيغيريدو، اضافةً الى 9 رؤساء آخرين لاتحادات وطنية بينها رئيسان سابقان للاتحادين البرازيلي والأرجنتيني. وبالتأكيد حصل ليوز على النسبة الأكبر من عمليات الرشى كونه حَكَم الاتحاد القاري من عام 1986 حتى عام 2013، وقد كشفت مصادر انه منذ عام 1991 وبعيداً من حصوله على مبالغ ضخمة تقدّر بالملايين لتوقيع العقود لشركة حويلا، كان يحصل في كل نسخة من كوبا اميركا على مليون دولار اضافية، وهو رقم زهيد مقارنةً بالأرقام التي جنتها الشركة البرازيلية جراء بيعها حقوق نقل المباريات الى قنوات محلية في الولايات المتحدة وكندا مثلاً حيث حققت ما يوازي 13 مليون دولار كنسبة عامة عند كل عرس قاري.
اما اليوم وبعد مسلسل الفضائح الذي رمى بشخصيات كثيرة خلف القضبان او نفاها من عالم اللعبة، اصبحت الأولوية لتحديد هوية الفائزين في المباريات بحسب ما تشير اليه مصادر عدة، وخصوصاً ان ارباحاً هائلة يمكن لشبكات المافيا ان تحققها جراء اصابتها رهانات غير متوقعة. وهنا يكفي السؤال عن قيمة المبلغ الذي جناه احدهم لوضعه رهاناً على تلقي ميسي بطاقة حمراء، وهو امر يعدّ بالنسبة الى الكثيرين مستبعداً كون القائد الأرجنتيني لم يُطرد الا مرة واحدة في مسيرته، وذلك في مباراة للأرجنتين امام المجر قبل 14 عاماً.



فساد عابر للقارات


قضايا تلاعب وفساد كبيرة ارتبطت ببطولة كوبا أميركا، وهي اعادت الى الأذهان الفساد المرتبط باتحادات مختلف القارات حول العالم. قبل أيام وتحديداً في حزيران/ يونيو الفائت، أوقفت السلطات الفرنسية رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم أحمد أحمد على خلفية قضايا فساد، وبعدها بفترة بسيطة تم توقيف رئيس الاتحاد الأوروبي السابق ميشال بلاتيني احتياطياً، للتحقيق معه في قضايا عدّة، وهو كان قد اوقف أيضاً عن مزاولة أي نشاط كروي. كل هذه التقارير والتوقيفات تؤكد حجم الفساد الذي بات يضرب اللعبة حول العالم، والذي يحتاج الى جهد كبير، وسنوات من العمل للحد منه على اقل تقدير.