كرة القدم للجماهير. هذه هي الحقيقة الثابتة في أذهان الجمهور، الذي ينسى كل شيء لمدة 90 دقيقة ويتناسى همومه من أجل مباراة للكرة. المشاهد لا يريد سوى شيء واحد، وهو أن يرى فريقه يفوز ليعوّض بذلك شيئاً من الخسائر التي يواجهها في حياته اليومية. ورغم أنّ هذه المعادلة موجودة في عقلية العديد من ملّاك الأندية أيضاً، غير أنّ البعض يضع العوائد المادّية فوق أي اعتبار.غالباً، يسعى الملّاك للموازنة بين الربح الوفير وإرضاء الجماهير، إذ أنه، وبعيداً عن الشق العاطفي، توجد علاقة طردية بين العاملين: جمهور راض، وهذا يعني إقبالاً أكثر ومن ثمّ فإنّ العائدات سوف تزيد. وفي هذا الإطار يضع بعض الملاك رضا جماهيرهم في الطليعة نظراً إلى كون هؤلاء الرؤساء أنفسهم من أكبر مشجعي النادي، أمّا الفئة الثانية، ورغم أنّ ما تُظهره يدل على الشغف والانتماء، فإن مواقفها وتصرفاتها تعكس الرغبة باستقدام الأموال الوفيرة بالدرجة الأولى، أو بعبارةٍ أخرى: «Business is business».
يبرز من أولئك الملاك: فلورنتينو بيريز إمبراطور العقارات ورائد الأعمال في عالم المستديرة.
عام 1995 ترشّح فلورنتينو بيريز لرئاسة ريال مدريد، غير أنه خسر الانتخابات أمام رامون ميندوزا بفارق 699 صوتاً، وفي الولاية التالية عاد بيريز مرة أخرى ليفوز بالمنصب ويحتل الرئاسة لمدة 17 عاماً.
منذ تلك اللحظة، ظهر جلياً تضارب المصالح عند فلورنتينو، وقد بدأ أول معالم ذلك عندما استهلّ ولايته الأولى في مدريد بصفقة «سياسية» صُنّفت على أنها الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث للكرة الإسبانية، حيث عقد اتفاقاً مع النجم البرتغالي لويس فيغو ووكيله، يقضي بانتقال اللاعب إلى ريال مدريد بشرط فوز بيريز في الانتخابات. هنا، ظهرت حنكة بيريز باستغلال اللاعبين للترويج لحملته وكسب قطاع عريض من المناصرين لتعزيز المكانة مستقبلاً.
وفي عام 2012، اجتمعت الجمعية العمومية لنادي ريال مدريد وأقرت بعض التعديلات في شروط الترشح لرئاسة النادي. أبرز تلك التعديلات كان وجوب مرور 20 عاماً على عضوية المترشح وليس 15 عاماً كما كان في السابق. أما التعديل الثاني والأهم فهو وجود ضمان بنكي «حساب في المصرف» للمترشح قيمته 15% من الموازنة السنوية للنادي. نتيجة تلك التعديلات، فاز بيريز بالتزكية في دورتَي 2013 و 2017، ومن المتوقع أن يستمر فوزه في الجولات المقبلة حتى يقرر هو موعد انتهاء الرحلة.
«سيطرة» بيريز على النادي الملكي مكّنته من تنفيع شركة البناء والإنشاءات التي يترأسها (ACS). فبحسب تقرير نُشر في مايو/أيار عام 2018 في صحيفة «التلغراف»، هناك توافق بين جولات فريق ريال مدريد الصيفية والعقود التي تعقدها الشركة في الدول ذاتها. يُذكر أن هناك تعاوناً مهماً يجري بين الشركة والنادي في مشروع تطوير ملعب السانتياغو بيرنابيو أيضاً.
عمل رئيس ريال مدريد في مجال العقارات قبل قدومه إلى كرة القدم


نفوذ بيريز المادي والسياسي جعل اسمه لصيقاً بالفيفا، حيث توجّه البعض للزعم بأنّ له أياديَ خفية داخل جدران الاتحاد الدولي لكرة القدم تخدم مصالح النادي الملكي. لكن، ورغم انكشاف الستار عن العديد من فضائح الفيفا مثل سقوط الرئيس السابق جوزيف بلاتر إثر ثبوت تورطه في تلاعبه ببعض البطولات، وتفضيل ملفات تنظيمية لبطولاتٍ قارية على أخرى، وخضوع العديد من المسؤولين البارزين للتحقيق آخرهم ميشيل بلاتيني، ظلّ وضع بيريز داخل الفيفا متيناً وغير قابل للمس، حتى وصفه البعض «بالصندوق الأسود». وفي هذا الإطار تبيّن أن بيريز يوظف أشخاصاً ويستفيد منهم هناك، وكل ذلك من دون وجود أي أدلة حقيقية.
وتعود آخر مواجهة بين بيريز والاتحاد الدولي لكرة القدم لأشهرٍ قليلة على خلفية بطولة «سوبر ليغ» التي أراد رئيس ريال مدريد إنشاءَها بهدف إدخال عائدات ضخمة على خزينة ناديه، وبالتالي مواجهة تداعيات فيروس كورونا، غير أن الفيفا وقفت له بالمرصاد وأحبطت محاولاته قبل أن تتحقق. «سوبر ليغ» عكست قوة بيريز الذي أراد مواجهة الفيفا منفرداً.
لا عاطفة في إدارة بيريز، يعكس ذلك أسلوبه في تسريح أساطير النادي. بدأ الأمر مع الحارس التاريخي للملكي إيكر كاسياس، ثم تلاه كل من كريستيانو رونالدو وسيرجيو راموس في سيناريوهات متشابهة تكون فيها الكلمة الأخيرة لإدارة الميرينغي التي تتجرّد من العاطفة كلما أرادت التخلص من أعمدة الفريق.
عموماً، ورغم قراراته المثيرة للجدل أحياناً، يبقى بيريز أحد أبرز ملّاك الأندية على الساحة الخضراء. تفضيل مصالحه ومصالح ناديه على حساب عاطفة وكبرياء اللاعبين والجماهير قد يدل على بعض الأنانية، غير أنه يعكس عقلية سياسية متينة. تجدر الإشارة إلى أنّ سياسات بيريز «الصارمة» ساهمت في بناء مجد الريال في تاريخه الحديث، غير أنّ أزمة كورونا الحالية أضاءت على الجانب المظلم من فلورنتينو. الواضح أنّ ريال مدريد يعاني من ضائقة مادية إثر تراجع العائدات والغياب عن منصات التتويج، والأكثر وضوحاً أنّ بيريز سوف يسعى جاهداً لمحاولة خوض غمار الموسم المقبل بأقل التكاليف الممكنة بدءاً بالتخلص من الأجور المرتفعة وصولاً إلى تضييق عدد الصفقات خلال سوق الانتقالات. فهل ينجح بيريز في رهانه أم أنّ المؤشرات الأخيرة تدل على اقتراب سقوطه عن العرش؟