صوت آذان من بعيد يوقظها في الرابعة فجراً. تحدّث إلهها: «لم أيقظتني يا رب أنا لا أصلي، دعني أنام». تتقلب في فراشها، يحاصرها الأرق. لا تغفو. تستيقظ العصافير. الله أكبر والزقزقة. الله أكبر وزقزقة من جيد. تفكّر صوت العصافير وصوت الآذان «دونت ميكس». وهي كائن يكره الزقزقة ويكره التكبير، يكره الأصوات عموماً، تتقلب في فراشها، لا تغفو. تتوسل الرب لأن يدعها تغفو، لكن التكبير وصلوات لا تفهمها تأسر أذنيها. فجأةً تستيقظ متأخرة، غسلت وجهها، «فرشت» أسنانها، ربطت شعرها، اختارت ثيابها المرمية على الكرسي أمامها. خرجت من منزلها بسرعة، فللمرة الألف تتأخر على عملها.
في انتظار المصعد يخرج جارها الملتحي حليق الشارب حاملاً سبحته ويلقي تحيّته: «السلام عليكم». تحدثها نفسها بأنها ليست بحاجة للانتظار، بوسعها استخدام الدرج... «كلها 4 طوابق». ولم لا، فهي بحاجة لخسارة بعض الوزن، أصلاُ، وهذا سوف يساعدها. يصل المصعد. ومع هذا تنسحب مهرولة على الدرج. تقف بانتظار سيارة الأجرة تنتظر وتنتظر. هي تدرك بأنه في هذا الوقت بالذات تنقطع سيارات الأجرة. فقد تخطت الساعة الثامنة، تنتظر وتنتظر ولا تأتي ولا سيارة. وفجأة ظهرت «العناية الإلهية» مجدداً، وأنقذتها هذه المرة. لاحت سيارة من بعيد بلوحة حمراء باهتة.
تتوقف سيارة الأجرة، فتحني رأسها لتخبر السائق عن وجهتها فتعدل عن ذلك وتلوح بيدها «لا، شكراً». تفكر بينها وبين نفسها «يا إلهي كم أنا عنصرية كونه حليق الشارب لا يعني بأنه إرهابي وما أدراني بأخلاقه». لعله متدين وحسب، تمشي إلى سيارة أخرى وتصل. تدخل إلى المبنى حيث تعمل رأسها في الأرض وإذ تصطدم عيناها بصندل ودشداشة، فترفع بصرها إلى أعلى وإذ به الـ«package» كاملاً. تشيح بنظرها تكمل طريقها إلى المكتب. الجميع سبقوها (كالعادة) ودخلوا الاجتماع الصباحي. تقف على «الترّاس»، وتشعل سيجارتها، تنفّخ. يساجل أحد الزملاء ناصحاً إياها بترك التدخين، وبأنها «أصلح» من ذلك. يتحدثان، يتناقشان. تخبره بأن ما يحدث بالبلد يدفع المرء إلى «التحشيش» وليس فقط إلى التدخين. «انظر إلى هذا القرف ساعة أسير، ساعة داعش، جبهة نصرة... لن نرتاح أبداً». يجيبها: «بلى إن شاء الله، سنرتاح قريباً»، ويطلب منها بألا تقول «داعش» بل «الدولة الإسلامية»، وبأن عليها ألا تحاكم الدولة الإسلامية على الهفوات المرتكبة، (الهفوات هنا طبعاً إشارة كل الجرائم والذبح) ويسترسل بالشرح، بأن كل دولة ترتكب الأخطاء وهي في طور النشوء، تُصدم، تتلعثم. تطفئ سيجارتها تحت قدمها وتدوسها بقوة. تقوم عن كرسيها. تفكر، زميلها في العمل «إرهابي»، لن تحدّثه بعد الآن. فهي لطالما احترمت التزامه الديني لكنه تفوّه بما لا تستطيع تسويغه. تفكّر بالإبلاغ عنه. تتريّث: لا هذا ليس من أخلاقها، ولكنها اتخذت قرارها بأن تتجنّبه قدر الإمكان. ترتعب بينها وبين نفسها ماذا لو كان آخرون في العمل يحذون حذوه في التفكير. ماذا لو كان مكان العمل مليء بداعش، فهي قد خططت في السابق لتفجير نفسها، في حال وصلت داعش إلى عتبة بيتها. لقد أجرت بعض الاتصالات لتأمين قنبلة متفجرة والاحتفاظ بها في غرفتها. لطالما فكرت بأنهم سيأتون إلى عتبة دارها، سيصلون، لكن ها هم هنا في مكان عملها. ماذا لو باغتوها هنا، وفرضوا عليها الحجاب والنقاب. تنتفض فجأة ماذا لو باعوها مثلاً... تفكّر «لا لن أسمح بذلك، سأحتفظ بقنبلة هنا في درج المكتب أيضاً».
تحدّثها نفسها مجدداً. ماذا إن تحول مجتمعها كاملاً إلى شوارب حليقة ولحى طويلة ودشداشات. يا رب لم الدشداشات الرجعيّة هذه، ليست على الموضة اطلاقاً. تصمت قليلاً. لكن هذا الزميل لا يرتدي الدشداشة ولا يحلق شاربه ولا يرخي لحيته. بات بإمكانهم خداعها الآن. كيف ستميّزهم. ما هذه المعضلة، كيف ستتجنبهم بعد الآن. فهي تهرب منهم في كل مكان إذا ما كانوا بزيّهم الرسمي. يرن هاتف العمل. تجيب. يأتيها الصوت من الجهة المقابلة «السلام عليكم». تعيد الشريط الصباحي في رأسها. ترتعب من جديد. تقفل الخط، وتكمل نهارها الرهيب.