مضى زمنٌ طويل منذ أنْ قرَّر شابٌ طموح يمتلك روح المبادرة تأسيس معصرة لزيت الزيتون أوّلاً، ولاحقاً لدبس الخرّوب. كان ذلك في ثلاثينيّات القرن الماضي حين أخذ «الحاج أبو جندل» على عاتقه مهمّة منافسة معصرتيْن أخرَيَيْن في القرية ذاتها إضافة إلى عدد آخر من المعاصر الموجودة في القرى القريبة. تباعاً، أقفلت كلّ معاصر الدبس أبوابها واستمرّت معصرة الخرايب بالعمل مِن بين عدد قليل جداً من معاصر الدّبس العاملة في الجنوب الآن.
لاعلاقة اسميّة بين «الخرايب» والخرّوب. ولكن بين الأولى والثانية ثمة ارتباط تاريخي وثيق يعود لمئات السنين. يقول «الحاج حسين» أحد كبار المزارعين في البلدة: «في الستينيات مثلاً كانت الخرايب تنتج وحدها ما لا يقل عن مئتي طن من الخرّوب». ويضيف: «رغم ابتلاع الباطون لمساحات كبيرة من البلدة، هناك الآن ما لا يقلّ عن 800 شجرة خرّوب بينها نسبة قليلة جداً من الأشجار المعمّرة التي يعود عمر بعضها إلى أكثر من مئة سنة»! ولكن ألم تتقلّص المساحات المزروعة بالخروب في الجنوب إجمالاً؟ لا ينتظر علي خليفة (صاحب المعصرة) كثيراً قبل أن يجيب: «على عكس ما يعتقد كثيرون، فنسبة زراعة الخروب عادت وارتفعت في السنوات العشرة الأخيرة قياساً بفترات سابقة شهدت تراجعاً ملحوظاً». وزراعة الخرّوب سهلة وغير مكلفة كما يقول العارفون. «بتخدمها تلات سنين بتخدمك كل العمر»، يقول «أبوحسن»، متوقعاً أن يتضاعف إنتاج الخروب في الخمس سنوات المقبلة. ويلفت إلى «أن وزارة الزراعة وبعض الهيئات المعنيّة شجّعت في فترات سابقة زراعة الخروب الى جانب الزيتون، وكلاهما من الأشجار دائمة الخضرة».

في المعصرة

داخل المكان المؤلّف من غرفتين رئيسيّتَيْن وباحة خلفية، لا مفرَّ من الاستسلام لعبق الرائحة الشهية وإغراء النار الذي يهزم برد الخارج. يشير «أبو حسن» الذي بدأ العمل في «المصلحة» في سن الثانية عشرة إلى أن «معصرتنا كانت بدائية جداً،
ارتفعت نسبة
زراعة الخروب
في السنوات العشر الأخيرة


دوا للمعدة
مطلوب القرحة ب
يرميلا سلاحا

وأدخلنا عليها تدريجياً بعض التحديثات من دون المسّ بروح الحرفة». يشرح المراحل التي تمرُّ بها صناعة دبس الخرّوب كالآتي: «طحن الخرّوب وتخزينه لـ60 يوماً من دون أن يتعرّض لرطوبة أو حرارة قوية. عملية النقع بشكل تدريجي بمعدل طن خروب يومياً خلال موسم الدبس (3 أشهر). تستمرعمليّة النقع لـ 4 ساعات ومن ثم تُصفَّى المياه الحلوة (تسمّى «ميّة البكر») جيداً قبل أن توضع أخيراً داخل «حلّة» أو ما يعرف بالـ «خلقينة» في «بيت النار» لمدّة 5 أو 6 ساعات لـ»يعقدوا منيح». بعد ذلك تُفرّغ الطبخة من دون أي إضافات أخرى «تا يبقى على طبيعتو» في أوعية بلاستيكية صحيّة لعرضه للبيع في الغرفة المجاورة.

منافعُ كثيرة

يتذكّر أحد شيوخ القرية شِعراً من الموروث الشعبي عن فوائد دبس الخروب: «وبتسأل عن دبس الخروب شو منفَعتو بصراحة. دوا للمعدة مطلوب، القرحة بيرميلا سلاحا». لكن أبو حسن يشير إلى فوائد أخرى للدّبس. فإضافة إلى أهميته الكبيرة في عملية تنظيف الجهاز الهضمي، «يعمل الدبس على إراحة الأعصاب وتحسين شكل البشرة، ويساهم في تنشيط القدرة الجنسية لدى الرّجال أيضاً. يضحك «الشيخ»: «نحنا راحت علينا». يتابع صاحب المعصرة حديث الفوائد: «يمكن للحكومة أيضاً أن تجمع بزر الخرّوب من المعاصر وتتعاقد مع معامل الأدوية لإنتاج أدوية لعلاج لأمراض المزمنة».

انتاج متراجع

يتأثر إنتاج الدبس بالطلب عليه من دون شك، ولكن القدرة الإنتاجية للمعصرة (معدل 15 طن دبس حالياً) يمكن أن تزيد في حال تم تفعيل عملية التسويق. «حاولنا سابقاً أن نستعين ببعض الزبائن الكبار ولكن.. !» يقاطع حسين (الابن الأكبر) والده، ويعلن ما أسماها «خطته» للمرحلة المقبلة: «قريباً سنتّفق مع بعض موزّعي المواد الغذائية لتسويق منتوجاتنا. سنعيد تجديد بعض الأمور في الشكل وسنفعّل الدعاية أكثر كما المشاركة في معارض للمنتجات التراثية». وماذا عن مدى مطابقة «دبس الخرايب» للمعايير الصحّية؟ يرنّ جرس الهاتف: «الغدا جاهز يلا تفضّلوا». يقول أبو حسن ممازحاً: «هيدي وزارة الداخلية على الخط (في إشارة إلى «إم حسن»)، وأهلاً وسهلاً بمندوبي وزارة الصحّة فليس عندنا ما نخفيه أو نخافه. أما الطَّعمة فلا خيار سوى أن تتذوّقها بنفسك»!