يرفع الحمار على ظهره الأثقال، كما يرفع صخرة الكليشيهات الضخمة. وعندما لا يفلح الأبد نفسه في إماتة هذه الصفات النمطية المتناقلة عنه، أين يمكن لحمار لطيف أن يذهب؟ خلال هذه السنوات، نجا الحمار بنفسه ونجح في الجلوس خارج هذا السجال. يكفيه ذلك الصوت الحزين العالق في حنجرته، حين قليلاً ما يتكلم.
وفي شريط وحدته الذي يربطه بكل تلك المسافات، عليه أولاً أن يراقب خطواته المثقلة بقسوة الناس وأخبارهم الفالتة من الدقة. قد ينقذه سراب عيني أتان في نهاية طرقاته المتكررة، أو حين تلهم صفاته مؤسسي الجمعيات والأحزاب. حين يصير هنا في لبنان، لا في قبرص ولا في أميركا، نجماً، أو فقط، لو كان لضحكته ذلك الصخب الذي يطبع ضجره، لنجح في رفس حزنه ولوثة صبره الطويلة. حجز النباتي الأوّل لنفسه مكاناً في التاريخ وبين الأساطير ورسوم الفراعنة، لكنه بقي وحيداً، بعدما حمل على ظهره الإله هيفيستوس إلى أعلى جبل «أوليمبوس» المقدس، حيث لا تصعد سوى الآلهة. لم يقدّر له حينها الهرب من لعنة الأسطورة الإغريقية التي أصابت «سيزيف». أصابت الحمار اللعنة ذاتها بلا ذنب. بقي وحيداً كسيزيف حامل صخرته المتدحرجة. صخرته بؤسه الأوّل، ويهان يومياً في مجتمعاتنا حين يستعمل اسمه كشتيمة.

إعداد
ذاكرة الحمار طويلة كأذنيه، لكن عينيه البائستين لا توحيان بذلك أبداً. لا تساعده هذه الذاكرة على حفظ الطرقات فقط، بل تمكّنه من تذكّر حمار رآه أو عاش معه قبل نحو 25 عاماً. ذكاء الحمار استدعى الفلاحين للاعتماد على تقديره للطرقات لمعرفة الأقصر منها. ارتبط أيضاً، بتعبيد الطرقات، حين كانوا يستشيرونه لاختيار الطرقات المناسبة بين القرى، قبل أن يقوموا بذلك.

■ ■ ■


في الواقع، يصبر الحمار طويلاً. لو قدّر لكائن آخر بشخصيته وطباعه الحساسة أن يسلك تلك الطرقات اللامتناهية، لكان عاش نصف عمر الحمار دون القدرة على تحمّل عنصرية الناس، وربما مضايقات الحيوانات الأخرى. لكن الحمار، بصبره وقدرته على التحمّل قد يعيش 50 عاماً، أي ما يقارب معدّل عمر الإنسان.

 ■ ■ ■


في الصين العملاقة، تتفوّق فيها نسبة البشر على كل سكان العالم، تعلو أيضاً نسبة الحمير. يعيش فيها 11 مليون حمار، من أصل ما يقارب 41 مليون حمار في العالم. وجوده هناك، يستخدم للنقل في الأرياف، كما يستعان بلحمه للأطباق الشهية كبرغر الحمار.

 ■ ■ ■


ولدت «جمعية الحمير» في مصر عام 1930، بعد إغلاق «معهد الفنون المسرحية» الذي أسسه المسرحي الراحل زكي طليمات. بعد ضغط سلطات الاحتلال البريطاني على الملك فؤاد لإغلاق المسرح، قاد طليمات مع عدد من الممثلين والفنانين والكتاب المصريين مجموعة من المحاولات لإعادة فتحه من جديد. دفع تراكم الخيبات بطليمات إلى استعارة صفة الصبر من الحمار وتأسيس «جمعية الحمير» مع مدير «دار الأوبرا المصرية» في ذلك الوقت شكري راغب. طه حسين وعباس العقاد وناديا لطفي، شاركوا أيضاً في الجمعية التي تمكّنت في ما بعد من استعادة المعهد.

 ■ ■ ■


نال عمر كلول اعترافاً رسمياً بـ«حزب الحمير» من حكومة إقليم كردستان في العراق عام 2005. البداية كانت عام 1979، عندما أراد كلول التستر خلف اسم بعيد عن السياسة ليواصل «نضاله القومي»، بعدما سجن في مديرية الأمن التابعة لنظام صدام حسين . هكذا، أسس كلول «حزب الحمير الكردستاني»، في المنطقة الكردية في شمال العراق، واستطاع أن يتخطى عدد المنتسبين له الـ 10 آلاف شخص. قد يكون إيمانه بأن الحمار لا يقتل حماراً آخر، كما يفعل الناس، أمراً صائباً، لكن استعارة مفردات وأماكن ومصطلحات الحمير وتوظيفها في حياة البشر سيبدو بالطبع أمراً غريباً. يعدّ «الخان» المكتب السياسي للحزب، و«الاسطبلات» فروعه، و«المعالف» فرقه. تنطبق هذه المصطلحات على مواصفات وأطباع الحمار التي استعارها كلول أيضاً. حدد الأمين العام للحزب شروط الانتساب الأساسية انطلاقاً من الحمار وصفاته، وهي شروط ليست سهلة كما تقول الصورة النمطية عن الحمار. التخلي عن الكذب، والقناعة والصبر، والتفاني وتقديم الخدمات للحزب هي الشروط البديهية، لخدمة قضايا الشعب القومية، وبالطبع خدمة الحمير.

■ ■ ■


لم تستثن الميثولوجيا الحمار. بدّد سقوط هيفيستوس من أعلى جبل أوليمبوس كل أمل باسترجاعه. هذا ما تقوله الأسطورة الإغريقية. أمه هيرا التي رمته، أحست بالذنب، وكل من أُرسل لاستعادته إلى جبل الآلهة فشل في فعل ذلك. إلى أن طلب أبو الآلهة زيوس من إله الخمر ديونيسوس أن يذهب ويأتي به إلى الجبل المقدّس. كان نبيذ ديونيسوس هو الوسيلة التي أسكرت هيفيستوس، وكان حماره هو من نقل هيفيستوس وقدمت به «أوليمبوس» العظيم.

■ ■ ■


إحدى النظريات حول أصول الحمير الحديثة، تفضي إلى أنها تعود إلى الحمير الوحشية الآتية من النوبة والصومال. وبقايا الحمير الحديثة التي تم العثور عليها في مصر السفلى، تأخذنا إلى الألف الرابع قبل الميلاد. تُدخل هذه الفرضية الحمار في التاريخ الفرعوني. تراثهم البصري الغني في الأهرامات صوّر مهمّاته في المجتمع المصري القديم إلى جانب الغزلان وغيرها من الحيوانات التي اعتمد الفراعنة عليها لنقل الأغراض والناس، وحصاد الأرض.