ليموج ــ سوزي مداح ثلاث مدن فرنكوفونيَّة | من باريس وصلت إلى مدينة ليموج الهادئة. هنا محطة القطار المصنفة الأجمل في أوروبا: «ليموج بنيديكتان» ذات القبة الخضراء، نسبة الى «البنديكتانيين» الذين أغلقت الثورة الفرنسية أدريتهم. أما صديقتي فقد دخلت المدينة الحمراء عبر مطارها الدولي المتواضع. وخلال الكيلومترات الستة التي تفصل مطار ليموج ــ بلغراد عن عاصمة مقاطعة ليموزان، سقطت في خديعة المسافة: ترقبت مدينة صاخبة لا يستيقظ مزارعوها باكراً لقطف التفاح وحلب الأبقار. ومع الوقت، نمت ألفتنا مع ليموج بطريقة متعاكسة تبعاً لتوقعات كل منا. القطار والطائرة يقودان إلى السكينة نفسها: هنا ليموج.

أعيش حالة حب مع ليموج. المدينة الغامضة والبطيئة الايقاع، مدينة تقتات على الخيبات. وأخيراً، في حزيران الماضي تشجعت وصديقتي ونزلنا إلى نهر الفينّن المحاذي لوسط المدينة. ركضنا باتجاه المزارع وبيوت الكواكب الاخرى. لم تتعدّ مدة ركْضنا الخمس عشرة دقيقة على مسار المشاة الابيض الناصع حتى رأينا الماعز، فضحكنا، وعدنا أدراجنا لنشرب البيرة بطعم الفرومبواز. فأناقة البورسلان وفن وسط المدينة المعماري الذي يقصده سياح العالم لا ينفصلان عن ليموج الطيبة، ابنة شارع اللّحامين والتجار الصغار. لكن نتائج انتخابات السلطات المحلية في ربيع في 2014 نقلت اقدم مدينة اشتراكية في فرنس إلى اليمين. تحولت صورة الشيوعي جورج غوينغوين الذي قاد المدينة إلى الحرية في عام ١٩٤٤ ، و«بيت الشعب» الذي يزال يحمل فسيفساء الأحمر والأزرق، وألوان الاتحاد العام للعمال الذي وجد عام ١٨٩٥ في قلبها، وسنين اضرابات العمال في مصانع الخزف الصيني، وكل شيء، تحول إلى مشهد وطني درامي. لقد سقطت ليموج.
لكن «اليمين» موقت. تراث المدينة الهادئة يُظهر لونها الاحمر، على الاقل في اتجاهين: في اتجاه مدينة الموت «اورادور سوغ غلان»، وفي اتجاه ملكة جمال محطات القطارات، حيث تنتظر فتيات كل ليلة بالكعب الاحمر العالي نصيبهن من ظلم العالم. وللمناسبة، مع بداية الالفية الجديدة عادت حقوق النساء العاملات في مجال الخدمات الجنسية إلى واجهة النقاش السياسي الاجتماعي في فرنسا، إثر اقتراحات الرئيس السابق (جداً) نيكولا ساركوزي بتشديد العقوبات عليهن، وتوجه بلديات محلية نحو تبنّيها. «نسويات ضد المتاجرة بالاجساد، عاملات نساء ضد عاملين مثليّين، عاملات محليات ضد أجنبيات من أوروبا الشرقية وأفريقيا...» ستسمع هذا كثيراً هنا. وهو جزء من مشهد معقد.
وفي عودة لحزيران ١٩٤٤، تاريخ نبيل للنساء في ليموج. ٢٤٧ امرأة و٢٠٥ أطفال قتلتهم قوات الشرطة السريّة النازيّة، أحرقتهم. بعد أن أقفلت عليهم الكنيسة في قرية أورادور سوغ غلان القريبة.
١٩٠ رجلاً أيضاً ماتوا اعداما بالرصاص في الحظائر. «لقد رأيت طفل مصلوباً»، يقول شاهد عيان. ولاحقاً، أخبرني صديقي سيباستيان، أن عند عودة جدته الهاربة من المحرقة إلى ليموج، جمعت الصلبان والانجيل الذين وجدتهم في منزلها وأخفتهم عن نفسها في صندوق في العليّة. بالنسبة لها، العالم مات. لكن عالم الدول لا ينتهي كعالم الأفراد الهش: في الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الاولى، التقى الرئيسان الفرنسي والالماني هذه السنة كبادرة سلام في هذه القرية التي أبقى عليها شارل ديغول كمزار تخليداً للمأساة.
وفي خضم هذا كله، لا تنشغل ليموج عن هدوئها تحت المطر، مطر رقيق لا يتوقف.