منذ نحو شهرين لم يعد أبو عمران يداوم في مقهاه. كبر في السنّ. حمل عمران، الابن، المسؤولية عن أبيه. كان هناك لحظة التفجير الانتحاري المزدوج، فأصيب، ونُقل إلى مستشفى سيدة زغرتا. بين بعض أبناء زغرتا والمقهى علاقة من نوع خاص. أكثر من ذلك، علاقة «الزغتاوي» بجبل محسن، وبطرابلس عموماً، أعمق وأبعد من فنجان قهوة. جوار جغرافي وصلات قربى ومصاهرات وعلاقات عمل ومصالح. الزغرتاويون هم من الروّاد التقليديين لتلك الزاوية، ولذا لم يكن غريباً أن تسمع، بين ضجيج المتسامرين في المقهى، صدى لأسماء مثل جورج وإيلي وطوني.
كان باستطاعة هؤلاء، وسواهم من أبناء عاصمة الشمال أيضاً، أن يضعوا زجاجات الكحول على الطاولة. الأمر ذاته ينطبق على مقهى «المجذوب» المجاورة، التي طاولها التفجير، وهي المعروفة بين الناس باسم «قهوة الأشقر». استمر ذلك العُرف على رغم دخولنا زمن «داعش» وأخواته. الشبّان الطرابلسيون يعرفون ذلك جيّداً، وهم من روّادها أيضاً، إذ يأتون من الزاهرية والتل والقبة وشارع الـ 200 وغيرها.

أعدقاء

كثيرون لا يعلمون أنه خلال السنوات الماضيّة، أيام جولات القتال المتكررة بين التبّانة وجبل محسن، كان بعض الشبّان، الذين يُشاركون في القتال من جهة التبّانة، يقصدون الجبل بُعيد انتهاء المعارك. يأتون إلى المقهى وسواه من المحال. لماذا؟ سيخبرك الناس عن أشخاص، بالاسم، يأتون لشراء الكحول. هؤلاء من الذين لم يكن لديهم التديّن، بنسخته المتشددة، وهم يمثّلون امتداداً لسلوك تقليدي بين أبناء طرابلس. كل ما في الأمر أن الظروف شاءت أن يكونوا من أبناء المذهب السُنّي، لحظة المعركة، وبالتالي لا بد لهم من قتال أصدقائهم في الجبل، وذلك لأنهم من العلويين... لا أكثر.
كثيرة هي الحكايا التي تسمعها عن أعداء، ساعة المعركة، أصدقاء بعدها، تجمعهم النرجيلة على طاولة واحدة. بعض هؤلاء حملوا البندقية لأنهم أرادوا تحصيل قوت يومهم، ببدل يومي قدره 20 ألف ليرة، عن كلّ ليلة قتال، يُسددها لهم «زعيم الزاروب» هذا أو المسؤول السياسي ذاك. لطالما عدّ مشهد قتال الفقراء، لبعضهم بعضاً، على ضفتي المعركة، من أكثر المشاهد «السورياليّة» هناك. بعضهم تربوا سوياً، وكانوا أصدقاء طفولة، لكن «على كبر» تتغيّر الأشياء بفعل جرثومة اسمها الطائفية. صداقات متقطعة تجمعهم، يقطعها مرّة تفجير مسجدي السلام والتقوى في عمق المدينة، وأخرى انتحاري في الجبل، وبينهما جولات من الضحايا. لكن لتعود المقاهي الفقيرة، مثلهم، وتجمعهم، إنما مع اتساع في فجوة التنافر مرّة تلو أخرى.

المنقلة

هكذا، وليس على سبيل «الكليشيهات» التقليدية، كان يمكنك أن تسمع في مقهى أبو عمران، بين الحاضرين، اسماء كعلي وعمر وجورج. الانتحاريّان، الآتيان من الجوار، القريب جدّاً، أصابا كلّ هذه الاسماء داخل المقهى. ثمّة إجماع على هذه الأجواء، الوطنية قل، في تلك الزوايا. المقاهي الشعبية في لبنان، التي تضاءلت خلال السنوات الأخيرة، تجد فيها من يلعب «الطاولة» أو «الداما» دوماً. لكن في «أبو عمران» وجاره «المجذوب» لعبة أخرى. إنها «المنقلة». هي الأشهر هناك. كثيرون في لبنان لا يعرفونها، ولكنها، على امتداد الساحل السوري، وصولاً إلى شمال لبنان، هي أشهر من أن تُعرّف.
كثيرة هي الحكايا
عن أعداء ساعة المعركة أصدقاء بعدها


يلعب روّاد
المقهى لعبتين
غير معروفتين: المنقلة والمورتة


طاولة خشبية، فيها بعض الحفر، إلى جانب الكثير من الحصى. لعبة تراثية بامتياز والكبار يعرفونها جيّداً.
«أبو الكفاح» السبعيني، الذي ابيضّت لحيته، أحد هؤلاء. ذات مرّة التقيناه في المقهى، بعيد إحدى المعارك، وكان يُصرّ على تكرار عبارة: «يلعن أبو الطائفية». خبر تاريخ المنطقة، وما مرّ عليها، ولا يزال يذكر بعض الأطفال الذين ولدوا أمامه وأصبحوا اليوم شبّاناً، في جبل محسن والتبّانة والمحيط على حدّ سواء. لم يكن يستطيع أن يُصدّق أن الشاب فلان، الذي حمله في قماطه صغيراً، يأتي ليطلق عليه النار. يعرف الجميع باسمائهم، لأن «حارتنا ضيّقة». لم يُصَب «أبو الكفاح» في التفجير الأخير، لا يزال حيّاً، لهذا سيكون عليه عيش «مرارات» إضافية لاحقاً، ورؤية من رآهم أطفالاً... لكن بـ«ثوب انتحاري» هذه المرّة.

واستراحة للجيش

ذلك المقهى، وعمره أكثر من 20 عاماً، كان يفتح ليلاً نهاراً. لم يغلق بابه حتى أيام المعارك. واستمر في تقديم نرجيلة بـ«الراس الجبلي». يُقال هناك إن لأهل الجبل شهرة في «تركيب» رأس نرجيلة بجودة عالية. كان هذا أحد الأسباب الإضافية التي تدفع بالآخرين، من الأحياء المجاورة، للمجيء ونفث الدخان. ذلك المقهى يرتاده عناصر الجيش اللبناني أيضاً. أثناء راحتهم، بعد ساعات الحرس، يأتون من نقاط تمركزهم في الجبل وخارجه للاسترخاء قليلاً. كانوا داخل المقهى، ليلة الانفجار، إلى قبل نحو ساعة من دويّه. من حُسن حظّهم. بعد الانفجار، وحتى اليوم التالي، كانت أكواب «المتّة» لا تزال على بعض الطاولات، لكنها أصبحت مطليّة بالدم. كذلك ورق اللعب الذي تناثر. يشتهرون هناك بلعبة ورق اسمها «مورتو». روّاد المقهى صنفان، منهم من يأخذ «النوبة» الصباحية ومنهم المسائية. من كبار السن، وممن يعودون من عملهم لقضاء ساعات قليلة قبل الذهاب إلى المنزل، فضلاً عن «العواطلية». هؤلاء الذين، كحال كثيرين من الشباب في لبنان، ضربتهم وتضربهم موجة البطالة. كل واحد منهم أصبحت زاويته في المقهى معروفة باسمه... وكذلك قهوته. حفظهم أبو عمران والمجذوب عن ظهر قلب. هذه ميزة، للمقاهي الشعبية، تفتقدها المقاهي الحديثة.
في حزيران العام الماضي ضرب انتحاري مقهى «أبو عساف» في منطقة الطيونة - الضاحية الجنوبية لبيروت. حكايات المقهى الشعبي، بين طيونة «أبو عساف» وجبل محسن «أبو عمران» تكاد تكون ذاتها. أسلوب عيش يتشابه إلى حد بعيد. حكايات ودّ ودردشة وتعارف ولعب ومناقشات وتمضية وقت واستراحة و«أخذ نفَس». ربما على أصحاب هذه المقاهي، وروّادها، أن يخشوا اليوم أكثر من ذي قبل... من دون أن يعني هذا ألا يستمروا بـ«ممارسة الحياة» كما هم، نكاية بالخوف، وبكل موزّعي البؤس والموت.