فتحت عودة الجماهير بقوة الى ملاعب كرة القدم اللبنانية هذا الموسم، الباب على نقاشٍ حاد حول هوية اللعبة الشعبية الاولى في لبنان، وسط اصطفاف بين حزبين، احدهما يرى في مستديرة الملاعب الخضراء لعبةً لا يمكن منافستها على صعيد الشعبية والمتابعة، والآخر يشدّد على ان المستديرة البرتقالية تحكم الساحة بقوة جمهورها.
طبعاً، لكلٍّ من الرياضتين المذكورتين قاعدة جماهيرية كبيرة، تنقسم الى اقسامٍ عدة، فهناك جمهور الملاعب، وجمهور التلفزيون، وجمهور المناسبات الخاصة او اذا امكن تسميته جمهور «الموضة» الذي يسير وفق موجة الضجيج الحاصل في البلاد من خلال احدى اللعبتين.
واذ تبدو الصعوبة كبيرة لتحديد الفائز في مواجهة «اللعبة الشعبية الأولى في لبنان»، تأتي عيّنة مأخوذة عشوائياً من الشارع، لتؤكد هذه النقطة. ففي استطلاعات للرأي خاصة اخذت بعين الاعتبار التنوّع في الاعمار، بدا جليّاً الانقسام الكبير بين متابعي الرياضة حول هذه المسألة، علماً ان الاهواء تختلف بحسب المناطق ايضاً، فتميل الكفة الى هذه اللعبة او تلك استناداً الى كيفية ارتباطها بالمناطق اللبنانية.

القاعدة الشعبية منقسمة

في شارع الحمرا، يقف رجل في العقد السادس من العمر الى جانب كشكٍ لبيع المطبوعات يقرأ الصفحة الرياضية في احدى الصحف اليومية. تسأله عن اهتمامه بالرياضة، فيأتيك الجواب «كرة القدم ولا شيء سواها». ويروي ابو مصطفى بأنه يلقي نظرة على كل الصحف يومياً ثم يشتري اكثرها نشراً عن كرة القدم اللبنانية، فبرأيه «هي ببساطة الاهم منذ الستينيات، والدليل انه رغم فترات الصعود والهبوط التي عرفتها بقيت جاذبةً للمتابعين».
وتختلف الحال عن هذا الرأي في حال استفتاء مجموعة من طلاب المدارس الذين بلغوا المرحلة الثانوية الاخيرة، اذ يُجمعون على انه رغم التركيز على كرة القدم في الحصص الرياضية في المدرسة فان «كرة السلة هي الاكثر اثارة للاهتمام بالنسبة اليهم ولا يمكن اي لعبة منافستها على صعيد الشعبية». هذا الرأي يبدو طبيعياً، وخصوصاً ان ابناء هذا الجيل نشأوا في ظل فترة عرفت فيها كرة السلة بُعداً جماهيرياً ضخماً، وخصوصاً في مناطق معيّنة، وهذا ما يعكسه رأي رانيا س. (31 عاماً) التي تقطن في الاشرفية بقولها: «ارتباطنا بكرة السلة صعب اختراقه، فهي جلبت الانجازات الى نادينا المفضّل الحكمة، رغم اننا نشأنا على تشجيع ومتابعة فريق كرة القدم في النادي نفسه، لكن مع اختفائه كان فريق السلة خير تعويض».
اللعبتان لا تتمتعان بالشعبية الجارفة نفسها التي طبعتهما في فترة التسعينيات

ومن هذا المنطلق، تأتي النتيجة كاسحة لكرة القدم في جولةٍ على الضاحية الجنوبية، حيث يحظى مهدي ع. باجماع من اصدقائه الذين يتسمرون امام شاشة التلفزة في احد المقاهي لمتابعة مباراة برشلونة واتلتيكو مدريد في الدوري الاسباني، فيقول جازماً: «مجرد التفكير بالمقارنة بين اللعبتين يعدّ مزحة لان حبنا لكرة القدم المحلية يأتي من خلال تأثرنا بالكرة العالمية، في وقتٍ لا اجد فيه اناساً كثيرين يتابعون كرة السلة في اوروبا مثلاً».

الحضور في الملاعب

بالتأكيد لا يمكن اجراء اي مقارنة مباشرة بين كرة القدم وكرة السلة على صعيد الحضور الجماهيري في الملاعب، وخصوصاً ان جمهور مدرجات الملاعب الخضراء يمكن ان يملأ اكثر من ملعبٍ لكرة السلة إذا كان حضوره على شاكلة تلك المباراة التي جمعت النجمة والانصار في صيدا هذا الموسم حيث قارب عدد الحضور الـ 8000 متفرج، او النجمة والعهد حيث اشارت التقديرات الى تخطيه الـ 10 آلاف متفرج. وهذا الامر يعطي نقطةً توضع في خانة كرة القدم، وخصوصاً ان اكثر مباريات السلة حضوراً في الملعب هذا الموسم كانت تلك التي جمعت الحكمة وضيفه الرياضي، حيث غصّت قاعة نادي غزير بحوالي 3500 متفرّج (لم يتمكن حوالي 1000 من دخول الملعب ايضاً)، لكن بما ان ملاعب كرة السلة لا تتسع للعدد نفسه الذي يحويه اي ملعب لكرة القدم (على سبيل المثال يتسّع ملعب هومنتمن، وهو احد الاندية الجماهيرية في اللعبتين، لألفي مشجع كحدٍّ اقصى)، فان النسبية تُسجّل نقطة في خانة السلة على اعتبار ان غالبية المباريات تشهد حضوراً جماهيرياً كبيراً حتى لو لم تكن تجمع بين فريقين منافسين على اللقب على غرار مباراة الشانفيل وضيفه هومنتمن، حيث احتشد حوالي 2500 متفرج لمتابعتها، وذلك بعكس عددٍ من مباريات كرة القدم التي يغيب عنها الحضور في الملعب. وهذه الارقام تأتي رغم تحديد الجمهور في بطولة لبنان لكرة السلة بمشجعي الفريق الضيف فقط، ما يعني ان كل الفرق تقريباً تملك قاعدة جماهيرية فعالة.
احد الخبراء الكرويين يرى ان كرة القدم لا منافس لها على الصعيد الجماهيري على اعتبار انه رغم الضجة الكبيرة التي احدثتها عودة الجمهور بزخم الى المدرجات، فان المشهد لم يكتمل «لأن التجربة الحقيقية تكون عند وضع سياسة كاملة لموضوع الجمهور في الملاعب يلحظ الأمن بالدرجة الاولى، ما سيشجع بالتأكيد على توافد المزيد الى المدرجات، والدليل ان عودة الجمهور اقترنت بهدوء الاجواء السياسية والامنية في البلاد».
واذ لا يمكن مقارنة الحضور الحالي بفترة التسعينيات حيث كان رواد الملاعب اكثر بكثير، فان الوضع الامني ليس الوحيد الذي شجّع الجمهور على العودة، بل هناك الشق الفني المرتبط بالمنافسة هذا الموسم مع اتساع دائرتها لتشمل اكثر من فريقين، والاهم التنوّع المناطقي للفرق. وقبل الموسم الحالي اضافت النتائج المميزة لمنتخب لبنان حشداً اكبر الى اللعبة التي زادت شعبيتها بعدما اصبح المنتخب حالة وطنية جذبت حتى اشخاصاً حضروا الى الملعب للمرة الاولى.
وهذه النقاط هي التي صنعت الصورة الجماهيرية القوية لكرة السلة، فالمستوى المرتفع للاعبين الاجانب مثّل مادة جاذبة لمتابعة اللعبة وسط ارتفاع مستوى المباريات، وازدياد حدّة المنافسة التي اخذت طابعاً مناطقياً ايضاً. وكل هذا ترافق مع النتائج الطيّبة للاندية، والمنتخب اللبناني خارجياً. وكما الفوتبول لا يمكن مقارنة الوضع الجماهيري لكرة السلة حالياً بذاك الذي طبع فترة امجاد الحكمة مثلاً، لكن حافظت اللعبة على جمهورها، بسبب ثباتها من نواحٍ مختلفة، والدليل بقاء الجمهورين الاكبر اي الحكمة والرياضي خلف فريقيهما بغض النظر عن نتائجهما، فبدت شعبيتها جارفة في المواسم المتلاحقة وانسحاباً الى الموسم الحالي.

المتابعة التلفزيونية

يكون المشهد ناقصاً إذا رأينا ان شعبية اللعبتين تقتصر فقط على اولئك الآتين الى الملاعب، اذ ان قسماً كبيراً من متابعي كلٍّ منهما يجلس خلف شاشة التلفزة مترقباً مباريات لعبته المفضلة.
وفي هذا الجزء، تختلف درجات المتابعة باختلاف زمن عرض المباريات او الظروف التي تحيط بها، اذ على سبيل المثال، اصابت المؤسسة اللبنانية للارسال ارقاماً عالية في المشاهدة بعد اقرار استكمال سلسلة نهائي الموسم الماضي من دون جمهور، حيث تشير مصادر الى ان المشكلة التي حصلت بين الحكمة والرياضي وضجّت بها البلاد، افادت الشاشة المذكورة من خلال استقطابها شريحة لم تكن تتابع مباريات كرة السلة اصلاً.
وبحسب مؤشرات شركة «جي أف كاي» التي تزوّد القنوات اللبنانية بنسبة المشاهدة، فان لقاء المتحد والحكمة مثلاً تراوح بين درجتين و4 درجات على مقياسها، في وقتٍ كانت فيه النسبة أقل، وعلى نحو مفاجئ، في مباراة «الدربي» الاخيرة حيث راوحت بين درجتين و3 درجات.
وعند المباريات المهمة ايضاً، يمكن اخذ عيّنة من اللقاءات الاخيرة في كرة القدم، حيث بدأ مؤشر قناة «الجديد» في لقاء النجمة والعهد عند درجتين ووصل في حدٍّ اقصى الى 6 درجات، ومثله في لقاء الانصار والصفاء الذي وصل الى 5.8 درجات في احدى فترات المباراة. اما اعلى الدرجات التي حصدتها كرة القدم في الفترة الاخيرة فكانت خلال المباراة التي نقلها «الجديد» وجمعت بين منتخبي لبنان والبرازيل الاولمبي، اذ بحسب «إيبسوس» صعد المؤشر من 8 درجات عند انطلاقها ليصل الى 11 درجة. علماً ان المتابعة التلفزيونية لكرة القدم قد تكون اكبر على اعتبار نقل مبارياتها فضائياً ايضاً.
أرقامٌ كثيرة واحصاءات عدة تعطي افضلية لهذه اللعبة في مجالات، ولتلك في مجالات اخرى، وبالتالي يصعب حسم مسألة تحديد اللعبة الشعبية الأولى في لبنان، لكن المنافسة الحاصلة لا تصب الا في خانة الايجابية التي يمكن الجزم بأنها ستعود بالفائدة على اللعبتين الاهم في البلاد.




المعلنون يحاكون شعب اللعبتين

لا يخفى ان القيمة الاعلانية لكرة القدم وكرة السلة هذا الموسم شهدت مستوى تصاعدياً مقارنة بالمواسم الثلاثة الاخيرة على اقل تقدير. وهذا مردّه الى المتابعة الجماهيرية الاكبر للعبتين، اذ حتى المواقع الالكترونية تشهد اقبالاً كثيفاً يصل الى مئات الآلاف من المتصفّحين خلال لعب مباريات غير منقولة تلفزيونياً.
من هنا، أطلّت الشركات الكبيرة على الساحة لتربط اسمها بالبطولتين، فدفعت احدى شركتي الاتصالات 100 الف دولار لتسمية دوري الفوتبول باسمها، وعزّزت حضورها بذكاء من خلال ارتباطها كمعلنٍ اساسي في التلفزيون الناقل، حيث تضاعفت ايضاً العائدات (من 300 الف الى 700 الف دولار) جراء ازدياد عدد المعلنين ومنها من انتقل الى كرة القدم محاكياً جمهورها بعدما دخل ميدان كرة السلة في المواسم الاخيرة، بينما ذهبت احدى شركات المشروبات الغازية المعروفة الى دفع 175 الف دولار لربط بطولة السلة بها من خلال اطلاق اسمها عليها، وذلك بعد غيابٍ عن رعايتها المباشرة للنشاطات الرياضية.