يقال إن أبناء المدن الساحلية لا يستطيعون ترك مدينتهم لأكثر من يومين. يقال إنهم كالأسماك، لا يتقنون العيش بعيداً من البحر. والواقع أن المقولة هذه لا تنطوي على خرافة، فهي واقع أبناء المدن الساحلية اللبنانية التي لم تنفصل عن البحر بعد. فسكان المدن التي لا تزال في حالة تداخل مع الشاطئ والمياه، وكأنها جزء لا يتجزّأ منها، يرتبطون بالبحر من خلال تفاصيل تتعلق بحياتهم اليومية. لقد عرفت بيروت، العاصمة الساحلية، واقعاً من التناغم بين الطبيعة البرية الخضراء، وبين البحر الذي يحتضنها. ومن أبرز الأمثلة على هذا التناغم حديقة «الرملة البيضاء» التي كانت تمتد على مساحة 10 آلاف متر مربع، بحسب «الدليل الأخضر لمدينة بيروت»، وهو عبارة عن خريطة تشير الى حدائق المدينة، القليلة.

الحديقة موجودة في الدليل وحسب.
الحديقة التي احتضنت أبناء المجتمع البيروتي لسنين طويلة، تلاشت كما ذاكرة المدينة.
لم يبق من الحديقة الضخمة، سوى قطعة أرض منسية، وبضع أشجار نخيل ومجموعة من الأزهار البرية التي تنبت بشكل عشوائي خلال فصل الربيع. فهل يعرف سكّان الرملة البيضاء أن في منطقتهم حديقة عامة يمكن أن يزوروها؟
وعلى رصيف يتوسط المسافة بين ما تبقى من الحديقة والبحر يجلس رجل سبعيني، «أربعاء أيوب، تقليد بيروتي عرفته صغيراً، حينها كنا نقصد شاطئ الرملة البيضاء خلال شهر نيسان للاحتفال بالربيع
«لا توجد حديقة في منطقة الرملة البيضاء، هناك قطعة ارض بين بنايتين، فيها بعض الورود، ما من حدائق أخرى»، يقول رجل أربعيني عند سؤاله عن موقع الحديقة. لا يجوز لهذه الأمتار المربعة الخضراء أن تندثر من الذاكرة، لا بد أن يستذكر مفترشو الأرصفة شيئاً عن ماضي المكان. وعلى رصيف يتوسط المسافة بين ما تبقى من الحديقة والبحر يجلس رجل سبعيني، «أربعاء أيوب، تقليد بيروتي عرفته صغيراً، حينها كنا نقصد شاطئ الرملة البيضاء خلال شهر نيسان للاحتفال بالربيع، وكان الشاطئ محاطاً بالخضار، أما اليوم فالحديقة لم تعد موجودة، لم يعد هناك سوى قطعة أرض صغيرة يقصدها الفقراء»، ينحت الرجل في ذاكرته.
ومن بين «فقراء الحديقة»، سائقان لسيارات أجرة، افترشا الأرض الترابية لاحتساء الشاي والقهوة خلال استراحتهما. الرجلان لم يعاصرا الحديقة قبل أن تتقلص، كل ما يعرفانه عنها أنها قطعة الأرض المتبقية... «معظم الأشخاص، يقصدون الحديقة لتناول الكحول، ويخرجون منها بحالة سكر» يلاحظان. تحوّل جذري في مفهوم الحديقة العامة في ظل الإهمال الذي يحيط بها. هكذا ينقسم المشهد إلى إطارين، الأول رجل لا يريد التخلي عن صورة المجتمع الذي كان يزور هذه الحديقة قبل أن تندثر، والثاني شباب يبحث في ما تبقى من هذه الحديقة عن فسحة من الحرية الشخصية والهواء الطلق. والحديقة بالمعنى البديهي، مكان يلتقي فيه الأشخاص على اختلافهم. لكن كل ذلك، على ما يبدو، انتهى.