لم يبقَ من سكة الحديد في طرابلس إلا الذكرى التي تقفز إلى مخيلة كبار السن في هذه المدينة التي تعبق بالتاريخ. حتى اللافتة الصدئة لم تعد موجودة هنا للإشارة الى مكان المحطة التي أصبحت متوارية عن الأنظار بين الحشائش وأشجار العليق. وحدها بقايا العربات المهترئة التي لم تصل اليها أيدي تجار الخردة، وشبه مبنى متهالك آيل للسقوط بفعل مرور الزمن. لقد توقف الزمن في هذه المحطة معلناً دخول المدينة مرحلة من الجمود وانقطاع التواصل بين بلاد عربية كانت تجمعها سكة حديد الحجاز.
يقول الدكتور عمر تدمري، أحد أبرز المهتمين بالتأريخ لآثار مدينة طرابلس، إن الحرب الأهلية كانت السبب الرئيسي في توقف القطار عن العم. يشرح «مع بدء الحرب وانقسام البلد، بدأ سير القطار يضطرب وذلك على ضوء الأعمال العسكرية. ولكن التوقف حصل فعلياً عام 1982 مع سيطرة الميليشيات على جسر المدفون الذي يصل طرابلس ببيروت».
لم يقتصر الأمر على توقف القطار عن العمل، بل «تدمّر جزء من المنشآت بفعل الأعمال الحربية بصورة جزئية أو كاملة». ترافق «موت القطار»، بحسب تعبير تدمري، «مع موت القطاعات الحيوية في المدينة ولبنان من المعرض الى الأملاك البحرية وصولاً الى سائر المرافق العامة». لافتاً في هذه الإطار إلى أن «أعمال البناء على سكة الحديد تأتي في سياق الاعتداء على الأملاك العامة التي يجب على الدولة استعادتها».


وعما إذا كان مجلس إدارة هذه السكة ما زال موجوداً، على غرار بعض المرافق العامة المتوقفة، يشير تدمري إلى أن «أكثرهم توفي أو على وشك، ومن قد يكون منهم على قيد الحياة فهم إما تقاعدوا أو نسوا شيئاً اسمه المحطة».
قد يكون الموظفون نسوا، إلا أن عدداً من أهالي المدينة لا يزالون يحتفظون ببعض القصص في ذاكرتهم. تروي الحاجة أم سليم بعض ذكرياتها مع القطار الذي كان يوقظ أبناء طرابلس والمحيط على صوت بوقه وصافراته. تقول إنه «كان يمرّ في بساتين الليمون التي لم يبق منها شيء وتحوّلت إلى أبنية سكنية». بالنسبة إليها «كان القطار جزءاً أساسياً في حياة المواطنين، وكانوا يستخدمونه للانتقال جنوباً إلى بيروت أو شمالاً إلى سوريا «كانت السيارات قليلة كتير، وكان القطار وسيلة رخيصة وسريعة. والأهم أنه كان كتير آمن. ولا مرة بذكر انو صار فيه حوادث خطرة أو ناس ماتت بسببه».
يتذكر أحد أبناء المدينة أنه «كان يوجد قطاران، الأول للأمتعة والثاني للركاب»، وذلك لأنه سبق أن استخدمه أكثر من مرة في رحلاته المتكررة بين الشام وبيروت. ويستغرب لم لا يتذكر أحد هذه المحطات إلا بين الحين والآخر «عندما يحتاج البعض لتصوير فيديو كليب من هنا أو وثائقي من هناك، أو للتفاخر بإقامة نشاط ما في مكان مميز، لكنهم لا يذكرونه للمطالبة بإعادته إلى الحياة».
تصعب إعادة القطار إلى العمل بسبب الأبنية غير الشرعية



الكثير من اللبنانيين يتمنون لو كان هناك قطار يساعدهم في تنقلاتهم في ظلّ زحمة السير التي لا تنتهي وتلف الأعصاب الذي يعيشونه يومياً، من المنطقة الممتدة من الشمال نحو العاصمة بيروت.
تعود السكك الحديدية اللبنانية بحسب الدكتور خالد تدمري، رئيس لجنة التراث والآثار في المجلس البلدي في مدينة طرابلس «إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إبان العهد العثماني، عندما قرّرت الدولة العثمانية، وتحديداً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أن تمدّ سككاً حديدية تربط بين إسطنبول والحجاز لتسهيل وصول الحجاج إلى بيت الله الحرام، ولكنها اليوم باتت أشبه بمتحف مهجور تتوسطه الحشائش المهملة منذ سنين».
تدمري يلفت إلى الدور الذي لعبته سكة الحديد في تنشيط الحركة الاقتصادية وإنماء بعض المناطق المحرومة، قائلاً: «إن امتداد خط السكك الحديدية بين مناطق مختلفة من لبنان عبر شق طريق بيروت ــ الشام كان السبب المباشر وراء نشأة العديد من قرى لبنان سياحياً واصطيافياً لتبقى ناشطة حتى يومنا هذا». ويعبّر عن أسفه لتوقف محطات القطار في لبنان عن العمل جراء ما تعرضت له من تخريب نتيجة الحرب الأهلية عام 1975.
وعما إذا كان بالإمكان رفع المخالفات التي تحول دون عودة سكة القطار إلى العمل يشير تدمري إلى أنه «بات من الصعب استرجاع هذه الخطوط، فبخلاف تدمير العديد منها فقد بنيت على طول خطوط بعضها من شمال لبنان حتى جنوبه أبنية مخالفة لقوانين البناء من دون الحصول على تراخيص من الجهات المختصة بالدولة».
 وعن المحطات التي لا تزال موجودة في لبنان، أشار تدمري إلى محطة بلدة «مار مخايل» في محافظة جبل لبنان، والمحطة الأكبر منها في منطقة رياق في سهل البقاع، شرق لبنان، حيث كانت توجد أيضاً ورشة كبيرة لصيانة القطارات.
وتصاعدت الدعوات في السنوات الأخيرة لإعادة القطار إلى السكة على غرار الدول الأخرى التي لم تستغن عن هذه الوسيلة الحيوية في قطاع النقل. كما وجرت العديد من المحاولات لإحياء هذه المحطات من جديد كان آخرها عام 2002، حين وضع وزير الأشغال اللبناني حينها ونظيره السوري حجر الأساس للمشروع اللبناني السوري المشترك لتأهيل خط سكك الحديد طرابلس إلا أنه لم يرَ النور حتى يومنا هذا.