لا تزال الجدة مريم حلاوي (70 سنة) تحبس دموعها عند الحديث عن يوم سفر ابنها الشاب، لأول مرة الى بيروت، ومنها الى السعودية. عاشت ذلك اليوم «كأنه الوداع الأخير». حبست كلماته الأخيرة في أذنيها، وانتظرت أخباره أشهراً كثيرة، لتقرأ كلماته المنتظرة على ورقة صفراء تنبعث منها رائحة جميلة، تشبه «رائحة ثيابه البالية». كلمات كان قد مضى على كتابتها، أكثر من شهر، كما تقول، نظراً إلى صعوبة السفر وطول مدته.حفظتها غيباً، بعدما قرأتها مرات عدة. ولا تزال الرسالة مخبأة في مكان آمن، مع الأوراق والحجج القديمة التي تثبت ملكية حلاوي للعديد من الأراضي. الرسالة هذه لا تقدّر بثمن، عند حلاوي، رغم عدم أهميتها الآن، بسبب وجود الهواتف النقالة والإنترنت.
«دخيلك ابعتلي مكتوب أول ما توصل» لا تشبه على الإطلاق عبارة «أرسل لي رسالة إلكترونية فور وصولك» لأن محمد مهدي ( 54 عاماً) يعي أن أجمل ما كان يرسله الى عائلته أثناء سفره هو «المكتوب» الذي كان يستغرق منه ساعات أحياناً، لأنه يعي أن الأسرة بكاملها سوف تقرأه، كما يعي أن التأخر في إرساله قد يثير قلق أفراد أسرته.

يذكر أن أول رسالة ورقية كتبها لأمه كانت قبل سفره. وأودعها مع أحد أصدقائه، ليرسلها الى أمه بعد شهر من سفره، خوفاً من أن يصيبها مكروه بسبب قلقها عليه إن لم تصل رسالته في الوقت المحدد. كانت فكرة محمد هذه، قبل أن يصل الهاتف الثابت الى بلدته العديسة. أما رسالته الأولى، فقد بعثها مع زميل له في العمل يقيم في منطقة النبطية، وكان على هذا الأخير أن ينتظر طويلاً ليلتقي بأحد أبناء بلدة العديسة في سوق النبطية لإرسال الرسالة مجدداً إلى الأهل.
في بلدة الطيبة، قضاء مرجعيون، يعيش أبو خليل عواضة (90 سنة). كان وحيداً، قبل أكثر من خمسين سنة، يكتب الرسائل لأبناء حيّه السكني الذين يقصدونه طالبين منه كتابة رسائلهم إلى أولادهم المغتربين. وقتها كان عدد المتعلمين قليلاً جداً، وكانت الرسائل الورقية همهم الوحيد، يكتبون عن همومهم وعواطفهم إلى أبنائهم المهاجرين، الذين بدورهم يرسلون رسائلهم مع رفاقهم القادمين، لتصل بعد أيام أو شهر على أبعد تقدير. أما إذا أرسلت عبر البريد، فيستغرق وصولها أكثر من ذلك.
يقول أبو نضال ( 60 سنة) «لقد ودّعني أهلي كوداع الميت عند سفري الى الكويت عام 1958 وكانت الرسائل الورقية هي التي تزيح الهمّ عن القلب، رسائل كنت أقرأها مراراً، وأعلّقها أحياناً قرب سريري، وكأنها صورة عزيزة. وكنت عندما أريد أن أرسل رسالتي الى أهلي، أبدأ في كتابتها قبل أيام من موعد إرسالها، كي أستطيع جمع كل خواطري وأخباري لنقلها بدقة وبلغة جيدة، لأنني أعلم أن هذه الكلمات سيقرأها جميع أحبتي مراراً وتمثل واقعي ومقدار شوقي إليهم». ويذكر أبو نضال أن أحد أبناء قريته كان قد أرسل رسالة من البرازيل، الى والدته في بلدة الطيبة، لكن هذه الرسالة «تأخرت كثيراً لتصل بعد وفاة مرسلها، يومها قرأتها الوالدة لتعرف بعد أشهر بنبأ وفاة ابنها».
ما كان أهم من الرسالة الورقية عند أبو نضال وأبو خليل، هو ابتكار الشريط الصوتي المسجّل «الكاسيت»، الذي جعل «شكل التواصل مع الأحبة أكثر رأفة، وساهم في تعزيز بقائنا لفترة أطول في عالم الاغتراب». كانت التجربة الأولى في تسجيل الصوت على «الكاسيت» مربكة كثيراً، لقد أقفلت جميع أبواب غرفتي، وشعرت بأنني أقف على المنبر، أخاطب جماهير الوطن الذي هاجرت منه، أسجل كلماتي الأولى، ثم أعيد تسجيل كلمات بديلة، أبكي أحياناً، وأتحدّث عن كل ما في داخلي، وأفصح عن جميع أسراري، وكأنني أدلي باعترافاتي أمام الكاهن في الكنيسة». ساعات طويلة استغرقت عملية التسجيل الصوتي الأول، ومع الوقت كانت عملية التسجيل أسرع، وأكثر حرفة. لكن إرسال الشريط كان عملية معقدة أيضاً، لأن الشخص الذي يجب إرسال الشريط معه، يجب أن يكون وفياً جداً، ولا يعمد إلى الاستماع الى الشريط، لأن أسرار الشوق والغياب كلها بداخله. لذلك كان أبو نضال يحرص جداً على لفّ الشريط المسجّل بأوراق تحكم إقفاله.