عندما ولدت نصرة فرحات قبل تسعين سنة في الغازية (قضاء صيدا)، لم يكن تعليم البنات عادة أو حاجة في نظر المحيط. تذكر أنّ قلة قليلة من قريناتها تعلمن القراءة والكتابة في بيوتهن على يد أقرباء، أو ذهبن إلى كتّاب الشيخ لحفظ القرآن. هي لم تكن بينهن، على الرغم من أن والدها كان ميسوراً. في سن الثانية عشرة من عمرها، توفيت والدتها. همّ مضاعف وقع على رأس نصرة وشقيقاتها الصغيرات. بقي والدها أرملاً لثماني سنوات قبل أن يتزوج ثانية. في تلك الفترة، لم يكن لدى الفتيات أي مجال إلا التفكير في تدبير شؤون المنزل، والتحضّر لكي يأتي «النصيب». وقد بلغ «النصيب» نصرة، لكنه لم يدم. تزوجت، ثم تطلقت بعدما أنجبت ابنتها الأولى مريم. بعد سنوات من التمنّع، رضخت نصرة لضغط المحيط بضرورة أن «تنستر» مجدداً في كنف رجل. فكان أن تزوجت الحاج حسن حسين نصار، أحد أبرز أعيان النبطية. إلى منزل الرجل الذي يكبرها بحوالى أربعين سنة، وصلت العروس عام 1952. صارت نصرة سيدة لمنزل بناه زوجها عام 1925. دار فسيحة من طبقة واحدة يغطيها القرميد وتزنرها القناطر في الواجهة الأمامية وتعلوها النوافذ المستطيلة الخشبية من كل النواحي، وتتقدمها حديقة مترامية تتوسطها نافورة مياه. كبرت السيدة، منشغلة بإدارة شؤون الدار ومتعلقاتها من زراعة وتحضير للخبز والاهتمام بابنتيها مريم ووفيقة وأولاد زوجها... لكن ماذا عنها؟
لم يخطر ببال زوجها الثاني كما الأول كما والدها، تعليمها القراءة والكتابة وتثقيفها. كان لها أن تمضي حياتها أماً ومربية ومدبرة منزل وطاهية وخبازة ومزارعة... فقط.

لكنها لم تكتف. لم يكن في الوارد أن تستعين بمعلّم خاص في المنزل يرتق أميّتها أو أن تحصل على الأخبار والمعرفة من الراديو أو التلفاز غير المتوافرين. فتحت ذهنها وحواسها لكل ما تسمعه من حولها. اختلطت بنخبة السيدات المثقفات، زوجات أو شقيقات أطباء أو مشايخ. كنّ قد استزدن منهم بالمعرفة والثقافة، وصارت نصرة تستزيد منهن. اكتسبت معرفة بأحداث العالم والعلوم والاختراعات، لا سيما الطب والأعشاب وحفظت بعض أسماء الأدباء والشعراء وأجزاء من أعمالهم.
مات زوجها عام 1964، فيما كانت ابنتهما الثانية لا تزال طفلة. تضاعفت مهماتها حتى كبرت الفتاتان وتزوجتا وبات لكل منهما عائلة. ماذا عنها مجدداً؟ فرغت الدار على نصرة، التقدّم في العمر يوهن جسدها، لا أحد يعينها سوى ابنتها الثانية المتزوجة في النبطية، تزورها لكن لا تستطيع ملازمتها ليل نهار. منذ عامين، لم تعد قادرة على الحركة إلا بمساعدة آلة. الهاتف الأرضي بات الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الخارج عند الحاجة. لكنها لا تعرف القراءة والكتابة ولا تميز الأرقام. ولأن الحاجة أم الاختراع، اقترحت على ابنتها تدوين أرقام هواتف الأقرباء والجيران والدكان والملحمة والطبيب والمخفر والإسعاف... وكل من يمكن أن تحتاجه على ورقة وألصقت بجانب كل رقم صورة تميز صاحب الرقم. هكذا، ألصقت صورة فخذ لحم بجانب رقم الملحمة وصورة شرطي بجانب رقم المخفر وصورة ابنتها بجانب رقمها... على نحو تدريجي بدأت تطلب الأرقام المكتوبة على الورقة بالمقارنة بينها وبين الأرقام المدوّنة على الهاتف، حتى صار دليل الهاتف الذي تستخدمه مادة مغرية للحديث والنقاش في أوساط المحيطين بها. برغم سنواتها التسعين، تحاول نصرة الاعتماد على نفسها لا سيما في عواصف الشتاء ولياليه الطويلة، مقدّمة نموذجاً إضافياً عن إرادة الإنسان وأفكاره الخلاقة، حتى لو حرم من التعليم.