على بعد ساعات من احتفال توزيع جوائز الأوسكار رقم 87 (الثالثة والنصف من صباح الاثنين 23 شباط ( فبراير) بتوقيت بيروت)، وبعد 86 سنة من فوز «أجنحة» (1927) وليام أ. ويلمان، نقف عند هذه اللحظة بكثير من التأمّل. لقد كثرت الكوابيس الوجودية التي تؤرّق العالم. أسئلة الهويّة والانتماء وقيمة الفرد وصمود الحضارة البشرية، مقابل هواجس العنف والتكفير والقمع وتهاوي ما تبقّى. السينما لم تخيّب الآمال يوماً في التصدّي لأزمات الكوكب ومخاوفه الكبرى.
كبارها فلاسفة ورسل ومشاغبون وثائرون ومنبوذون. نجاح شريط بديع انتصار لكلّ سينمائيي الأرض. حتى الاكتساح التجاري لأفلام سطحية، يمكّن من استمرار الصناعة وإبقاء الصالات على قيد الحياة.
تداعي أفكار كهذه آتٍ من شهرة الأوسكار المطلقة، سواءً أعجب ذلك بعض السينيفيليين أم لا. الحدث يحيل زمنياً على الإعلان النهائي عن انتهاء موسم وبداية آخر. رغم كل انتقادات التسييس والحسابات، يبقى الأوسكار حلماً مشتركاً بين عمالقة السينما ومبتدئيها القابعين في آخر الدنيا.
هذا العام، يقف الممثل نيل باتريك هاريس للمرّة الأولى على خشبة مسرح «دولبي» في لوس أنجليس، لتقديم الاحتفال الكبير. ينضمّ إليه في إعلان جوائز 24 فئة عدد من نجوم هوليوود، منهم بين أفليك، ونيكول كيدمان، وماريون كوتيار. كالعادة، يكشف صاحب أوسكار أفضل ممثل العام الفائت ماثيو ماكونهي عن الفائزة الجديدة. وبالعكس، تعلن أحدث مالكة لأوسكار أفضل ممثلة كايت بلانشيت اسم «الفارس» الجديد. الأوسكارات التكريميّة من نصيب كل من الفرنسي جان كلود كارييه، والياباني هاياو مايازاكي، والإيرلندية ماورين أوهارا، بينما تُمنح جائزة جان هيرشولت الإنسانية للناشط والفنان الأميركي هاري بيلافونت. الإنتاج لنيل ميرون وكريغ زادان، فيما يتولّى الإخراج هاميش هاملتون. في المنطقة العربيّة، الحدث منقول حصرياً على شبكة OSN المشفّرة عن شبكة ABC الأميركية (سيُبث في حوالى 200 بلد).
ثمانية أفلام ناطقة بالإنكليزية لبّت شروط «أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة» (تأسّست عام 1927).
وصلت بسلام إلى القائمة النهائية لأفضل فيلم بعد تصفيات عدّة. خمسة أخرى من دول العالم، منها «تمبكتو» (2014) للموريتاني عبد الرحمن سيساكو. الصدارة لكل من «بيردمان» للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو و«فندق بودابست الكبير» للأميركي ويس أندرسون (9 ترشيحات). يليها «لعبة المحاكاة» للنرويجي مورتين تيلدوم (8 ترشيحات)، وكل من «القنّاص الأميركي» للأميركي كلينت إيستوود، و«صبا» للأميركي ريتشارد لينكلاتر (6 ترشيحات). عموماً، يمكن الاطّلاع على قائمة الترشيحات الكاملة على «هنا».
قوائم هذا العام ترسم الكثير من علامات الاستفهام. تعيد هواجس التسييس والاعتبارات غير السينمائية في بعض منها. التمثال الذي لم يبتسم لعظماء (ستانلي كيوبريك، وألفريد هيتشكوك، وإنغمار بيرغمان، وأكيرا كوروساوا...)، تعرّض لكثير من الثرثرة أخيراً. ثمّة إجماع على «فقر في التنوّع». اقتصار مرشّحي جوائز التمثيل على أصحاب البشرة البيضاء، أحدث كثيراً من الجلبة في كواليس الأكاديمية. أيضاً، أين فيلم السعفة «بيات شتوي» للتركي نوري بيلغي جيلان في الترشيحات الأجنبية؟ أين الأداء الأسطوري لأفضل ممثّل في مهرجان كان تيموثي سبال عن «مستر ترنر» لمايك لي؟ ما هي مبرّرات هذا التجاهل المتكرّر لتحف الكروازيت في الاحتفال الأوسكاري؟ كيف تغيب رائعة بينيت ميللر «صائد الثعالب»، وصفعة دان غيلروي في Nightcrawler (بطولة جايك جلينهال) عن فئة أفضل فيلم، لحساب ميلودراما فارغة مثل «نظرية كل شيء» لجايمس مارش وتسوّل نضالي مسطّح مثل «سيلما» لآفا دوفيناري؟ المفارقة أنّ «صائد الثعالب» حاضر في كل التصنيفات الأساسية الأخرى، فيما «سيلما» غائب عنها. هذا «الإعجاز» لم يحصل سابقاً بهذه الفجاجة.
هل برادلي كوبر، ذو القدرات المحدودة، أفضل من جايك جلينهال الذي يحقق اختراقاً تلو الآخر في سجلّه اللافت؟ ماذا عن ترشيح ميريل ستريب التاسع عشر عن Into the Woods لروب مارشال؟ الممثلة الكبيرة لا تقدّم أفضل أدوارها بالتأكيد. لماذا يحضر سيناريو «صبا» الذي قام على كثير من الارتجال؟ إلى أيّ درجة يُفتقد «بيردمان» بتوليفه المدهش ودرامز أنطونيو سانشيز الخلّاب في الموسيقى؟ كريستوفر نولان، أحد أنبياء السينما الجدد، أنجز ملحمة الفضاء الأكثر تفرّداً بعد كيوبريك في Interstellar. رفع سقف الخيال العلمي إلى السماء الأبعد من دون التفات لائق. في المقابل، نلمس بريق ترشيحات أخرى. Whiplash لصغير يُدعى داميان شازل (1985) في خمس فئات مستحقة. الأميركي أحد هدايا مهرجان «ساندانس» (الوجه الحقيقي للعظمة الأميركية). فيلم قصير ناجح، يؤمّن تمويل الروائي الطويل من جنّة السينما المستقلة. هذه المرّة الأولى للمهووس ويس أندرسون في حلبة الإخراج. الرجل يُبحر بتسارع لافت نحو شاطئ الكبار. ستيف كاريل مغاير بشكل مبهر في «صائد الثعالب». موسم ذهبي لجوليان مور بسعفة أفضل ممثلة عن «خرائط النجوم» لديفيد كروننبرغ، وترشيح نظيف عن Still Alice لريتشارد غلاتزر وواش وستمورلاند. مايكل كيتون يُبعث من الموت بأداء استثنائي في «بيردمان». لا ينافسه على الذهب سوى إيدي ريدماين، الذي تقمّص العالم ستيفن هاوكينغ إلى حدّ مرعب.
حسناً، ماذا عن الأفلام نفسها؟ وفق بورصة الجوائز الممهّدة للأوسكار، تبدو المنافسة محصورة بين «بيردمان» و«صبا». في هذا الأخير، نحن بصدد مغامرة مجنونة شديدة الالتصاق بالحياة اليومية والعائلة، من دون توجيه أو فبركات برامج تلفزيون الواقع. 12 سنة من التصوير المتقطع لعائلة بسيطة وأناس عاديين. ياقوت طبيعي نقي وصرف. مايسون (إيلار كولترين) لا يفعل شيئاً سوى النمو والاحتكاك بالمحيط. الحياة كما هي تُلقى أمامنا، ضمن روائي يقترح حسّاً تسجيلياً أخّاذاً. «في حال وفاتي، تولّى الإخراج أنت». قالها لينكلاتر (1960) لبطله المفضل إيثان هاوك أثناء إنجاز هذه التحفة.
على الكفّة المقابلة، يطير «بيردمان» إيناريتو. السينمائي المكسيكي (1963) يستبدل جلده بآخر أكثر نضجاً وجرأةً. يحقق انعطافةً أسلوبية ودرامية في الوقت المناسب. ينجز شريطاً مدهشاً، أخّاذاً، بليغاً، شجاعاً، لا يخشى مد لسانه في وجه الجميع. يتحرّش بهوليوود من صلبها، مستعيناً بالكاست الملائم فنياً وشخصياً.
مع مكسيكي آخر يعدّ فلتةً في السينماتوغرافيا هو إيمانويل لوبيزكي (مرشّح بدوره)، يطير من الأزقة الضيقة وأقبية الاختناق الجماعي في الأفلام السابقة إلى كواليس برودواي. يمزج «الواقعية الهوليودية» مع «الواقعية السحرية» ليستبدل «القدرات الخارقة» بـ«الواقعية الخارقة». كذلك، ثمّة موقف حاد من النقد وسينما السوبر هيرو التي يصفها بالـ«فاشية». لو أردنا اتخاذ موقف، سنقف إلى جانب «بيردمان» من دون تردّد، لأنّه انتصار لكل ما نحب. في الوثائقي، تحوم الاتهامات حول عنوانين: «ملح الأرض» للألماني الشهير فيم فيندرز والبرازيلي جوليانو ريبيرو سالغادو، وCitizenfour للأميركية لورا بويتراس. الأوّل ملحمة بصرية عن الفوتوغرافي البرازيلي سيباستياو سالغادو، وتوثيقه لأكثر من 40 سنة من الأحداث السياسية والصور النادرة. إضافةً إلى نبش صور خلّابة وصادمة للعين، يتابع «ملح الأرض» حياة المصوّر الخاصة، والأثمان التي دفعها في سبيل العمل والترحال. شريط يصرخ من أجل المشترك الإنساني. يتساءل عن حال الكوكب والطبيعة، مزدرياً حروب البشر وما إلى ذلك من ترّهات. Citizenfour ليس سوى البطل/ الخائن الشهير إدوارد سنودن. قوّة الوثائقي نابعة من محتواه الـ«سكوب». ظهور سنودن شخصياً والمعلومات التي يقدّمها. الإشكالية المحيّرة في قضيته كلها.
في الحضور العربي، لا بدّ من الحديث عن «تمبكتو» للموريتاني عبد الرحمن سيساكو (1961)، الذي ينافس باسم فرنسا (بلد الإنتاج). مانيفستو ذكي عن البهاء الإنساني المضاد للتطرّف الديني، والجهاديين الذين يحوّلون الحياة جحيماً. «تمبكتو» كانت وادعةً مبتسمةً للتنوّع في مالي، قبل انقضاض وحوش العصر. القضيّة الكبيرة تقدّم بذكاء، من خلال تفاصيل حياتية ويوميات عائلة «كيدان»، الذي يجد نفسه متورّطاً في الجحيم التكفيري.