استيقظت، ذلك الصباح، على صوت رصاص يخترق جدران عمارتنا. أطرد النعاس من عينيّ وأدخل الحمام لأحلق لحيتي. أحلقها على وقع الصوت نفسه، المتسرّب من النافذة الصغيرة. أسمع زقزقات عصافير جارتنا أم نعيم المعلّقة على حائط الشرفة، فأتخيّل ارتطامها بجوانب القفص الحديدي، كلّما رنّ الرصاص. فجأة، يختفي النور. تهتزّ الشقّة بنا... ورفّ الزجاج والمرآة التي بالكاد أرى نفسي فيها. أشعر، وكأنني في فيلم وثائقي عن الحروب العالمية التي اعتدنا مشاهدتها في المدرسة.
يعود النور. أنظر إلى وجهي في المرآة التي هدأت، متسائلاً عن سرّ تلك البرودة التي لا تفارقني. فهل الرصاص في الخارج زائف؟ وهل تلك القذائف هي أصوات فقط؟ أو أننا اعتدنا، فعلاً، تلك الحياة؟
مسحت ما بقي من معجون الحلاقة، وعدت في الزمن إلى المرة الأولى التي شهدت فيها حرباً بين منطقتنا و»منطقتهم». حينذاك، كنت في الصف الثانوي الثاني، وكنت أستعد للامتحان النهائي في مدرستي البعيدة... كل البعد عن الحرب. مدرستي التي لم تكن تضمّ غيري من تلك المنطقة لارتفاع أقساطها. لم يجدوا سبباً مهمّاً لإلغاء امتحان مادة علوم الحياة، وكذلك أمّي التي كانت مصرّة على أن أذهب لأقدّم امتحاناتي. «يالله حبيبي قوم، حضّرتلّك كل تيابك والشنتة كمان»، تهمس في أذني عند الفجر. ثم تنصرف لتجهيز أشقائي، فبعد انتهاء الامتحان، سنذهب جميعنا إلى منزل جدّتي البعيد عن النزاعات كي لا نبقى تحت هول الأصوات القاسية على مسامعنا البريئة. جمعت أمي أغراضنا: الذهب والأوراق المهمة وجوازات السفر لنهرب بها من المنزل. هي مرّت بتلك التجربة قبل ٢٠ سنة عند زواجها. تعرف كل تلك الأشياء. تعرف أنها عندما عادت إلى بيتها بعد النزوح القسري، لم تجد شيئاً من «شبكتها» أو جهاز عرسها.
جمعت كل شيء. ونعيم، ابن جارتنا، «كسر» حائطاً في المبنى، لكي نهرب مع جيراننا، قبل أن تشرق الشمس وتقف إلى جانب القناص. هربنا من الممر المستحدث، ولكننا بعد أيام عدنا إلى بيتنا من مدخل المبنى الرئيسي، بعد انتهاء جولة «الحرب». لم تستمر عودتنا طويلاً. اشتبكوا، فهربنا مجدداً من الحائط المكسور... ثم عدنا. بقينا على هذه الحال سنين عدّة، تخلّلها انفجاران في المدينة. هذه الأشياء أكسبتنا «قدرات عسكرية»، مكّنتنا في ما بعد من تمييز صوت الرصاص من المفرقعات النارية المبتهجة. صرنا نفرّق بين رصاص الجيش ورصاص شبّان الشوارع، وبين قذيفة الهاون أو أي نوع آخر... واتجاه الرصاص أيضاً، هل هو من منطقتنا أم على منطقتنا؟
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبحنا مجهّزين لأي حالة طوارئ قد تحدث. قادرون على جمع كل ما نحتاج إليه للهرب من البيت. وبتنا نعرف أيضاً أين تركن «تاكسي العلقات»، ففي تلك الظروف، تنبت بسرعة قياسية مواقف سيارات الأجرة لنقل الراغبين بترك المنطقة. هذا التاكسي، هو نفسه الذي سيعيدنا إلى بيتنا في وقتٍ لاحق.
غالباً ما تشتعل الاشتباكات عند المساء. ولذلك، أحرص على العودة إلى البيت باكراً. أركض في الشارع لتجنّب رصاصة قناص، إن لم أحظ بسائق تاكسي «العلقات». أصل إلى البيت، وأستغل وجودي في ليالي النزاعات في لعب الورق مع أهلي أو سرد الأخبار المضحكة التي لا تجمعنا أيام السلام على سردها.

■ ■ ■


… وأنت تقرأ هذا النص، تكاد تعتاد تلك الحياة، وقد تتشوّق لتسهر معنا في الليل وتستمع الى أحاديثنا المضحكة... فما بالك بعائلةٍ عاشت تلك السطور أكثر من ٣ سنوات، ولا تزال، ولا تشعر حتى بحالة الطوارئ إِلا عندما تقتحمنا وسائل الإعلام.
سنبقى على تلك الحياة لو طلبت منّا طرابلس لتبقى هي على قيد الحياة.