بعد ثلاثين عاماً على الانفجار الذي أودى بحياة «قائدَيْ المقاومة» حينها، محمد سعد وخليل جرادي، ومواطنين آخرِين، لا زال وهج سعد وجرادي حاضراً في كلّ بيت من بيوت البلدة الواقعة إلى الشّرق من صُور. في ذلك الحين كان القضاء على مقاومة معركة يُعادل، بحسابات «الإسرائيلي»، سقوط مئتي قرية من قرى الجنوب. بين 24 شباط 1984 و4 آذار 1985 اجتاحت اسرائيل البلدة عشرات المرّات. يومها «دافعت معركة بصدرها عن شرف الأرض... وحولها قبائل جبانة وأمّة مفكّكة» كما قال نزار قباني. ومِن هناك طارد رفاق محمد وخليل جنود الغزو «ليس في مواقعهم وحسب بل وحتّى في أحلامهم»!
هذا هو لسان حال أهالي «معركة» إلى اليوم. بسرعة قياسية عاد محمّد خ. بالزّمن ثلاثين سنة إلى الوراء. لا يجد الرجُل صعوبة في استحضار اللحظة التي كُتِبتْ له فيها الحياة مرّة أُخرى. يشير الناجي من «مجزرة الحسينيّة» إلى مكان إصابته فيبدو وكأنّه يمسح للتَّو الدّم والغبار عن رأسه. يقف الآن في المكان ذاته. «هذه غرفة الشهيد خليل (جرادي). مكتبه كان هنا. هُنا وضعوا المتفجّرات على الأرجح ( يشير إلى جنبات المكتب، حيث تم زرعها بطريقة غير مرئية في المساحات الفارغة في المكتب الحديدي آنذاك)».

وأنت؟

«كنتُ في الغرفة المجاورة. قبل ذلك بدقيقة واحدة فقط قال لي الشهيد خليل: أحضِر لنا لائحة أسماء المواطنين الذين ستوزّع عليهم هيئة الإنعاش المواد التموينية». يتابع الرجل: «دخلتُ إلى الغرفة القريبة، وهممتُ بسحب الجارور عندما وَقَع الانفجار». وبعد ذلك؟ «كان كلُّ شيء قد انتهى. كانوا يريدون استهداف خليل. الشهيد محمد (سعد) لم يكن يحضر يومياً إلى معركة لأنه كان دائم الحركة الميدانية على نطاق أوسع من البلدة». يضيف الرَّجل: «لم أفقد الوعي في تلك اللحظة، كما لم أدرك حقيقة ما جرى تماماً. كان الرُّكام يغطّي معظم جسدي. تحسّستُ رأسي فلم ألحظ أية دماء أول الأمر. فعلتُ مرة أخرى فأبصرتُ الدم على كفّي». كانت مصادفة مؤلمة وجميلة في الوقت ذاته أن تمتد تلك اليد لانتشال محمد من تحت الرّكام. كانت يد أبيه. وماذا بعد؟ «ها أنا هنا مرّة أُخرى».

جلسة مع الأصدقاء

نزولاً من الساحة العامة إلى «الحارة التحتا»، مروراً بالأزقّة الضيقة التي شهدت في ثمانينيات القرن الماضي مواجهات بين الأهالي وجنود العدو، إلى «المركز الثقافي» الذي تحوّل إلى مركز مؤقّت للبلدية. كان الشّاعر يدعو الحضور إلى تكثيف المشاركة الشبابية في مثل هذه الأنشطة حول تاريخ معركة المقاوِم، حيث تقيم البلدة بين 24 شباط و4 آذار من كل عام سلسلة فعاليّات ثقافية وسياسية ورياضية.
في غرفة أنيقة من غرف المركز الذي يضمّ أيضاً مكتبة عامة، كانوا ستّة رِجَال. بين هؤلاء رفاق درب للشهيدين محمّد سعد وخليل جرادي ومعاصِرون من أبناء البلدة لتلك المرحلة. يسترسل هؤلاء في الحديث عن مقاومةِ بلدتهم. يُقرُّون أن ثمّة تقصيراً في كتابة تاريخ المقاومة لكنهم يقولون إن الأوان لم يفت بعد. يعودون بالحديث إلى الأسابيع الأولى للاجتياح الإسرائيلي عام 1982 يومَ عملَ محمد سعد وخليل جرادي على تهيئة الأرضية لمواجهة العدو في منطقة صور. «كنّا يومها في عراء مكشوف».

ثمّة تقصير في كتابة
تاريخ المقاومة لكن الأوان
لم يفت بعد

يؤرّخون للعام 83 باعتباره العام الذي شهد تصاعداً ملحوظاً في العمليات العسكرية والمواجهة الشعبية ضد الاحتلال. يتحدث رفاق الشهيدين عن «نموذج معركة» في المواجهة المدنية الشاملة الذي أتعب الاحتلال وأدهشه. «كانت مهمتنا في البداية هي إعاقة تقدم آليات وجنود العدو أثناء اقتحامه البلدة». نقاط الحراسة على أطراف البلدة كانت أمراً مهماً، وكلمة السّر دائماً هي «الله اكبر» الآتية عبر مكبرات الصوت من جامعَيْ البلدة والنادي الحسيني، «يومها كانت هاتان الكلمتان تعبّران عن حالة النقاء الثوري».
السّاحة العامة هي مكان المواجهة الأساسي إضافة إلى الشوارع الداخلية. أما النساء فهنّ دائماً في الصفوف الأمامية. «أنشأنا في «معركة» حركة مقاوَمة نسائية منظّمة لم تكن موجودة في أي قرية أخرى». لاحقاً استقطبت «معركة» مقاومين من خارج البلدة فصارت مركز ثقل أساسي للمقاومين الذين ينطلقون منها لتنفيذ عمليات عسكرية خارج البلدة. «كنّا نؤوي هؤلاء في بيوتنا وفي مخابئ سرية خاصة». استطاعت معركة، حسب «شهود المرحلة» إياهم، أن تنتج صناعة العبوّات الناسفة محلياً. «أول دبّابة ميركافا تم إعطابها في عملية نوعية على طريق ديرقانون النهر كانت من إنتاج معركة».
أدخَل تاريخ 24 شباط 1984 «معركة» والقرى المجاورة في مرحلة جديدة من الصراع. طوَّرَ الأهالي وسائل المواجهة الشعبية وأدخلوا سلاح الزيت المغلي الحارق إلى الميدان. اشتدّ عُود المقاومة المسلّحة أيضاً ضد مواقع العدو. بعد ذلك تكرّر مشهد اقتحام معركة وقرى الصمود الأُخرى وفرضت إسرائيل ما أسمته «القبضة الحديدية» في حينها.
«نجحت إسرائيل في اغتيال سعد وجرادي ولكنها لم تستطع القضاء على المقاومة» يشير محمد أبو الحسن (قيادي سابق في المقاومة) الى أن المواجهات الشعبية في معركة كانت علامة فارقة في تاريخ المقاومة، لافتاً في المقابل إلى «أن عدداً كبيراً من العمليات العسكرية ضد مواقع العدو وجنوده خصوصاً في منطقة صور كانت تجرى في ذلك الحين تحت مسمّى «المقاومة الوطنية»، والتي كانت حركة أمل في طليعتها ومعها شيوعيون وقوميون وفلسطينيون ومواطنون لا يحملون أية انتماءات حزبية»، بحسب أبو الحسن الوثيق الصِلَة بالواقع الميداني في تلك المرحلة.

أبو خليل

لم تتمكَّن الـ«تسعون» من القضاء على النشاط الذهني للحاج أبو خليل، فظلّت ذاكرته عصيّة على النسيان رغم تراكم الأحداث التي عاصرها عقداً بعد آخر. يتكلَّمُ بهدوء يشوبه بعض الانفعال فيبدو كواحد من شخصيات مكتبته التاريخية. يبتسمُ بين الفينة والأخرى فتظهر قسمات وجهه الطفولي أكثر وضوحاً. إلى جانبه كتاب «ويلات وطن» للبريطاني روبرت فيسك الذي عايش تلك المرحلة مُراسِلاً وأجرى مقابلة مع خليل جرادي قبل يوم واحد من «النهاية».
مكتبة «الشهيد» ما زالت في مكانها وقد صارت أشبه بمتحف يخلّد بعضاً من سيرته إضافة إلى مجموعة كبيرة من الكتب المتنوّعة الإهتمامات. يحفظ الأب عدداً كبيراً من محطّات سيرة ابنه الشهيد، تماماً كما يحفظ معظم كلمات «القسَم» الذي أدّاه مع السيد موسى الصدر في بعلبك وصور.
في الغرفة المتواضعة التي «ساهمت في صناعة الإنجازات»، يجلس أبو خليل وجهاً لوجه مع الحفيد حسين. «ماذا تريدني أن أقول الآن عن خليل؟» يقول الأب بصيغة سؤال العارف. «الشاب العنيد الصلب الثابت على مبادئه، أم الإنسان المقاوم الذي أصرّ أن يبقى في معركة لتحويلها إلى نموذج رائد في مقاومة الاحتلال؟». وخليل «كان زاهداً كما يعرفه الجميع، يأكل قليلاً ويقرأ كثيراً. رفض السفر للخارج لمواصلة تعليمه الجامعي مكتفياً بشهادة العلوم التجارية من مهنية صيدا.

أنشأنا حركة مقاوَمة نسائية منظّمة لم تكن موجودة
في أي قرية
قال لي يومها: تريدني أن أغادر بلادي المحروقة. إذا سافرنا كلنا لِمَن نترك الأرض؟».
يروي أبوخليل أن المخابرات الإسرائيلية جاءت مرّة لاعتقال ابنه الذي كان عائداً للتو من عملية جراحية في بيروت. تزامن يومها عيد الأضحى ومناسبة دينية يهودية. قال له المحقق متودّداً: «شو هالصدفة التقى عيدنا وعيدكن؟». كان ردّ خليل: «بس نحنا مش رح نلتقى أبداً!». يتحدّث «الحاج» عن المرات الكثيرة التي جاء فيها محمد سعد ومقاومون آخرون إلى هذا البيت. يكشف أن الشهيد عماد مغنية جاء مرتين للتواصل مع خليل في نهاية السبعينيات. يستحضر أبو خليل اسم الشيخ حسن طراد (ابن البلدة الذي يقيم في الغبيري) مرّتين في معرض حديثه عن الشهيد خليل. المرَّة الأولى حين قال إن ابنه ورفيق دربه محمد سعد كانا قد طلبا «الإجازة» للقيام بعملية استشهادية فرفض الشيخ حينها باعتبار أن بقاءهما على قيد الحياة لقيادة المواجهة مع إسرائيل أمر أكثر أهمية. ومرّة أُخرى حين استنجد الأب بـ«صاحب الفضيلة» لإقناع خليل بالزواج فباءت محاولة الشيخ حسن بالفشل. يعترف الحاج ضاحكاً: «أتعبني خليل. أصرّيتُ على تزويجه رغم معرفتي أنه قد لا يعيش طويلاً بسبب انخراطه في مواجهة المحتل. قال الشهيد خليل لأبيه: إسرائيل هون والدنيا خربانة، وانتو مش عم تفكروا إلا بالزواج. يا بييّ أنا عم عيش أيام معدودة». لكنه تزوج في نهاية الأمر!
كان حسين (30 سنة) قد بلغ من العمر سبعة أشهر فقط حين وقع تفجير حسينية معركة. «الحاج أبو خليل كان جدّي وأبي في آن» يقول الشاب الحاصل على شهادتين جامعيتين في الفلسفة والكيمياء. يعرف حسين أباه جيداً ويراه هكذا: «قيادي وصاحب كاريزما على المنبر. غالباً ما يتأبّط كتاباً، وكان يقول: إذا ما عندك شي تعملو اقرأ كتاباً». ليس غريباً أن يكون «الشهيد»، بحسب «الابن»، قد تأثر بالسيد موسى الصدر. «كان إسلامياً تقدمياً وجسّد القيادة الحركية رافضاً في الوقت عينه الفكر الإسلامي المستورد أو المُعلّب».
كان خليل جرادي ينظر إلى الحاضر آنذاك بوصفه امتداداً لحركة التاريخ فاهتم بإجراء بحث (غير منشور) عن سيرة المقاومَيْن العامليَّيْن صادق حمزة وأدهم خنجر. يؤكد حسين أن أباه نسج علاقات واسعة وأقام مراسلات مع رجال دين كانوا مؤثّرين في نشر «حركة الوعي» في تلك الفترة كمحمد مهدي شمس الدين وراغب حرب ومحمد حسين فضل الله. وبحسب الشاب الثلاثيني فإن أهمية محمد سعد وخليل جرادي ورفاقهما تكمن في أنهم «كرَّسوا فكرة مقاومة إسرائيل بعدما كانت مستحيلة وأعطوها حيّزاً للتنفيذ».




هجرة متزايدة

تُعدّ بلدة «معركة» واحدة من كبرى بلدات قضاء صور وتبعد عنها عشرة كيلومترات. شهدت البلدة في السنوات الأخيرة هجرة متزايدة لأبنائها إلى البرازيل وأوروبا وافريقيا. وهي تُعدّ أكبر خزّان بشَريّ للمعلّمين والأساتذة في منطقة صور في القطاعين الرسمي والخاص (قرابة 500 مُدرّس!)، وفيها عدد كبير من الأكاديميين الجامعيين والإعلاميين وموظّفي الدولة والسلك العسكري. وفي «معركة» اليوم ثلاثة أندية وجمعيات ثقافية ورياضية ناشِطة وفرع لجمعية «حقوق المرأة اللبنانية».