تُعِدُّ سناء القهوة المُحلَّاة بالحليب لضيوف العائلة الذين جاؤوا على حِين غرّة. لا تُفارِق الإبتسامةُ مُحيَّا الثلاثينيّة الجميلة التي تحترف مهنة تصميم المجوهرات. لـ «نيسان» مكانةٌ خاصّة في ذاكرة أهل المنزل البيروتيّ الأنيق الذي عاصَرَ مقاومِين للإحتلال الإسرائيلي ومناضلين في مراحل عديدة. على بُعد شارعَيْن فقط، وقبل ثلاثين سنة تماماً، خرجت من منزل قريب فتاة بعُمْر السَّابعة عشرة لتدخُلَ التاريخ من بوّابة الجنوب كأوّل استشهاديّة في لبنان. كان إسمها سناء أيضاً.
تغيَّرَ لون السّماء فوق منطقة باتِر. قبلَ عقودٍ ثلاثة، تجاوزتْ سيارة الـ«فولز فاغن» حاجز التفتيش الاسرائيلي عند المعبر الشهير في منطقة جزين، وعبرت إلى «الداخل» المحتلّ. تقدّمت الـ«بيجو» البيضاء ببطء قبل أن تنعطفَ ناحية تجمُّعٍ لآليّات العدو وجنوده وعملائه. مِن خلف المقْوَد بدت سناء كَنبيٍّ «جاء من أقصى المدينة». غيَّرَ الرُسُل طريقتهم لمرَّة استثنائيّة عند مشَارف الجنوب. دوَّى صوت هائل في باتِر وفي كلّ «عواصم القرار» أيضاً.
في بيروت بكى الإعلامي الراحل عرفات حجازي حين شاهد فيديو الوصيّة قبل عرضه.

بكى الإعلامي الراحل عرفات حجازي حين شاهد فيديو الوصيّة
مساءً أطلّتْ «العروس» عبر شاشة التلفزيون لتعلِن عن نفسها للعالم: «أنا الشهيدة سناء يوسف محيدلي... مِنَ الجنوب المحتلّ المقهور، من الجنوب المقاوم الثائر..».
لِسَنَة وأربعة أشهر، ظلَّت سناء تُكَتِّم نيّتها القيام بعمليّة استشهاديّة «ضد اليهود»، كعاشق يُخفي مشاعره تجاه «الحبيب». شكَّل محلُّ بيع وتأجير أفلام الفيديو الذي عمِلت فيه طيلة تلك المدة نقطة تحوُّل أساسية في حياتها القصيرة. هناك ازدادت شخصيتها القومية نضوجاً رغم أنها كانت قد تشرّبت الفكر القوميّ والوطنيّ في «حلقات إذاعية» أيام المدرسة. مُصادفة التاريخ قادتها لأن تقوم بمهمّة نسخ فيديو وصيّة الشهيد وجدي الصايغ لمرات عديدة، الأمر الذي عزّز لديها القناعة بالفكرة التي أرادت من خلالها أن «تزلزل الأرض تحت أقدام اليهود».
أوّل الأمر لم يصدّقها أحد ممّن صارحتهم بالفكرة (على نطاق محدود جداً). اعتبروا الأمر مجرّد مزحة، أو فائضاً من الحماسة في أفضل الأحوال. أصرّت الفتاة على الهدف مقابل محاولات متكرّرة وفاشلة لثنيها عن المهمّة. «وقتها أخد عخاطرها وزعلت كتير». قالت لهم إنها ستقوم بالعملية في نهاية الأمر، وكانت تعرف طريقها جيداً.
تركتْ كلَّ شيء وذهبت بعينين مفتوحتين إلى حيث هي الآن «مزروعة في تراب الجنوب».
يروي أحد المعنييين بتدريبها وتجهيزها، أنه في الفترة التي انقطعت فيها أخبارها عن الأهل والأصدقاء، لم تتراجع سناء ولا مرّة عن قرارها القاطع بالمضي في طريق الشهادة. يقول: «يوماً بعد آخر كانت تبدو أكثر عزماً وصلابة. أدهشتْ كلَّ من قابلتهم فوق». فوق؟ «نعم يعني في المُعسكر».
نسخ فيديو وصيّة الشهيد
وجدي الصايغ لمرات عديدة،
عزّز لديها الفكرة

يُحدِّث الرجل ذاته أيضاً: «كان الرفقاء يحاولون بدايةً أن يضعوا سناء أمام ما يشبه الاختبارات النفسية والذهنية فوضعت هي الجميع أمام اختبارات لم يعهدوها من قبل!».
تعلّمت قيادة السيّارة في ثلاثة أيام فقط. تدرَّبت على حمل السّلاح بالسرعة ذاتها أيضاً. «سناء كانت حالة فريدة فعلاً. كان القرار بتنفيذ العملية قد اتُخذ رسميّاً في الدوائر المعنية». يقول الرجل: «كان مقرّراً حصولها قبل أيام من تاريخ وقوعها، لكن فريق الرصد الخاص في حينها أبلغنا أن الصيد لم يكن ثميناً فتأجّل الموعد». وماذا عن المرّة الثانية؟ «نجحت العملية بشهادة العدو الذي حاول بداية كالعادة التقليل من حجم االخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات». ويكشف الرجل ذاته عن «طلب غريب» تقدّمت به سناء في اليوم الأخير قبل العملية. «عندما أحضرنا السيارة المفخّخة سألتني إذا ما كان بالإمكان تغيير مكان زر التفجير المثبت في السيارة». قالتْ حرفياً: «هنّي أحقر من إنو اقتلهن بإيدي بدي اقتلهن بإجري». وكان لها ما أرادت!
يتذكّر الرجل سناء صباح العمليّة: «كانت تودّعنا مبتسِمةً وواثقة. كنّا جميعاً صغاراً أمامها».

تعلّمت قيادة السيّارة في 3 أيام وتدرَّبت على حمل السّلاح بسرعة
وسناء، أو «بنت الربيع» كما أسماها الراحل أحمد فؤاد نجم، كانت «متصالحة مع نفسها تماماً ولم تكن تعاني من أي مشكلة نفسية» حسبما يؤكد مقرّبون منها عايشوها في السنتين الأخيرتين. «أهم ما في سناء أنها كانت هادئة وحاضرة الذهن وقليلة الكلام». وفي العمل؟ «يكفي أن صاحب المحل كان يأتمنها على العمل. إلتزامها بعملها لم يقلّ شأناً عن إيمانها بقضيتها». هكذا رآها هؤلاء عن قُرب.
حين ضغطت إبنة بلدة عنقون الجنوبية على زرِّ التفجير قبل ثلاثة عقود، لم تكن سناء إبنة بيروت قد وُلِدتْ بعد. تعرِف الأخيرة أن اسمها هو وديعة الشهيدة سناء «المثال والقدوة في النضال» بالنسبة لها. تُفكّر سناء الصغرى الآن كيف يمكن أن تُبدع تصميماً خاصاً بـ«البطلة سناء» انطلاقاً من روح مهنتها. تُقرُّ بصعوبة الأمر أمام عظمة الشّهادة، ولكنّها مع ذلك لا تعرف إلى المُستحيل طريقاً.. تماماً كسناء محيدلي ذاتَ نيْسان!