شكّلت الانتخابات البلدية التي حصلت للمرة الأولى في القرى الجنوبية الحدودية، عام 1963، «نقلة نوعية في تاريخ المنطقة» كما يقول أحد كبار السن في بلدة العديسة. لا يتعلّق الأمر بالناحية الإنمائية فحسب، بل «لشعور الأهالي حينها بأنه بات لهم دور ولو جزئي في الحياة العامة».
المختار والناطور

قبل هذه الانتخابات، كان المختار هو رجل الدولة الأول في القرية أو البلدة، الذي يعيّن من الدولة أو من سلطة الاستعمار، وكانت قراراته واجبة التنفيذ، وتأخذ الطابع الانمائي البحت، وخصوصاً في ما يتعلق بشقّ الطرق الزراعية أو حفر برك تجميع المياه لخدمة المزارعين، وغيرها. يحاول أبو وسيم الأمين (63 سنة) أن يحدّد ما كانت عليه «وظيفة» المختار في تلك الأيام، يقول: «كان المختار يحدّد موعد تنظيف بركة البلدة، وعلى الجميع أن يساهم في ذلك طوعاً، في أغلب الأحيان، ايماناً من الأهالي بأن الخدمة العامة واجب على الجميع، خصوصاً أن معظم الأعمال المطلوبة تتعلق بتسهيل حياة المواطنين، وتأمين احتياجاتهم الزراعية». والأهم أن المختار يومها «لم يكن يحصل على أي راتب يذكر، ويرفض الحصول على بدل توقيعه أو ختمه، كانت نفسه عزيزة، لا تسمح له باستغلال موقعه للحصول على الأموال من الأهالي». لذلك كان يجرى اختياره من بين أغنياء البلدة ووجهائها حتى يستطيع التفرّغ لعمله، وتأمين قوته وقوت عياله، وتأمين مصاريف التنقلات إلى الدوائر الرسمية لمتابعة حاجات أبناء البلدة ومعاملاتهم. حتى أن بعض المخاتير كانوا يعملون على بيع الأراضي التي يملكونها لإنفاقها على الولائم التي كانوا يقيمونها لإطعام رجال الدرك وجباة الضرائب. ومن صلاحيات المختار حينها، أنه كان يعيّن نواطير البلدة، الذين يعملون على حراسة الأحياء السكنية، وينفّذون أوامر المختار بدقة. وعندما يحضر رجال الدرك، «الجندرما»، إلى البلدة بهدف إلقاء القبض على أحد المواطنين، كانوا يتوجهون مباشرة الى المختار الذي يطلب من الناطور اصطحاب الدرك معه لتنفيذ مهمتهم.
ناطور الحيّ بدوره، لم يكن يحصل على راتب محدد، لكن العرف السائد كان أنه على أبناء البلدة أن يقدّموا له حاجته من المؤونة المنزلية. فيخصّص له البعض الطحين أو القمح، ومنهم من يقدّم البيض أو التين اليابس وغيره، لتصبح غلّة الناطور مؤمنة طيلة أيام السنة. المختار الذي كان يحسد على منصبه هذا، يستمر في عمله طيلة حياته، ليأتي من يرثه، وكثيراً ما كان الولد يرث أباه في «المخترة»، بسبب العلاقات المميزة التي كانت تربط أسرة المختار بممثلي الدولة الذين يملكون سلطة تعيين المختار.

الانتخابات الأولى

نظّم الشرطي مرة ضبط مخالفة بحق زوجته لأنها رمت مياهاً آسنة
يعود أبناء المنطقة بالذاكرة إلى عام 1963، ليحكوا عن آخر انتخابات بلدية أجريت في لبنان قبل اندلاع الحرب اللبنانية، والتي مدّد لمجالسها حتى عام 2000، تاريخ تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي.
يقول العضو البلدي السابق في أول مجلس بلدي في الطيبة، أبو خليل عواضة (90 سنة) أنه في ذلك العام، «جمع حسن الأسعد، ابن عم الرئيس السابق كامل الأسعد، أبناء بلدته الطيبة في ساحة البلدة، وقال للأهالي تشاوروا في ما بينكم واتفقوا على تعيين الأعضاء والرئيس». طبعاً كان حسن الأسعد هو الرئيس الذي اختير حينها، أما الأعضاء السبعة فجرى اختيارهم من أبناء العائلات الكبرى، وتم الاتفاق على أن يكون عواضة عضواً ممثلاً للعائلات الصغرى.
منذ ذلك الوقت كان المواطنون واعين لمحاولات السياسيين التدخل في الانتخابات، في محاولة لفرض نتائجها قبل حصولها «حتى أن زعماء المناطق حينها كانوا يرسلون رجال الدرك قبل إجراء الانتخابات، للتواصل مع الناخبين، ودخول منازلهم طالبين منهم التصويت للأشخاص الموالين لهم» يقول ابن العديسة. فيما يتذكر علي مصطفى، ابن بلدة حولا المجاورة، هذه المرحلة جيداً «كان السياسيون متسلّطين، ويستخدمون رجال الأمن لفرض انتخابهم. ذات مرّة طلب ضابط الأمن في حولا من المختار أن يحدّد له عدد الأصوات المعارضة لآل الأسعد في الانتخابات البلدية، فقال له عددهم خمسون، لم يتردّد الضابط باعتقالهم جميعهم، وعلى الرغم من ذلك فوجئ بالنتيجة التي تعلن فوز الشيوعيين بفارق كبير، فقال للمختار لو كنت أعلم بذلك لاعتقلت جميع أبناء البلدة».
لكن على الرغم من ذلك، تجمع الآراء على القول إن «المصلحة العامة فوق كل اعتبار، والجميع مقتنع بضرورة تنفيذ قرارات البلدية، لا سيما في ما يتعلق بدفع الضرائب والالتزام بالتراجعات القانونية أثناء بناء المنازل»، يقول عواضة، معدّداً بعض الإنجازات التي تحققت في بلدته الطيبة آنذاك «كان المجلس البلدي يجتمع كل أسبوع تقريباً، وقد استطاع تعبيد العديد من الطرقات بالاتفاق مع القائمقام، وتأمين حاجات المزارعين معتمداً على ميزانية مالية صغيرة، إضافة إلى الضرائب التي تدفع من الأهالي ومن التجار الغرباء، الذين يقصدون سوق الأربعاء». في وقت لاحق، انتقلت مهمة جباية الضرائب، بتكليف من البلدية، إلى شرطي البلدة الأول حينها، محمد محمود شرف الدين، «كان راتبه الشهري 75 ليرة، وله مهام اضافية، منها ضبط الجرائم والمخالفات القانونية، وحلّ المشكلات العالقة بين الأهالي، لا سيما تلك المتعلقة بالنزاعات العقارية».

الضريبة العادلة
لكن في بلدة شقرا «كان شاويش البلدية الأول عبد الحسن عاشور، يأخذ الضريبة من كل بائع غريب يدخل البلدة لبيع بضائعه فيها، فيقدّر الضريبة بحسب حجم البضاعة ونوعها، لكنه كان منصفاً وعادلاً». وفي ذلك يقول كبار السن في البلدة إن عاشور كان يردد مازحاً «أعرف من كل جمل عدد قطع الفراكة (الكبة النية) التي يمكن أن تصنع من لحمه» في إشارة الى أنه كان يستطيع تحديد الضريبة العادلة. ونظراً للمشقة التي يتكبدها الشرطي البلدي بسبب جباية الضرائب، عمدت البلدية، برئيسها عبد الحسن صالح، إلى «تضمين» الجباية لأحد أبناء البلدة، مقابل 1200 ليرة سنوياً، وكان الجابي الضامن يحقق أرباحاً كثيرة، لأنه يتفرّغ لعمله هذا، ويحدد الجباية وفق التخمين الذي يرتأيه، مع الأخذ في الاعتبار قدرات الأهالي وإمكاناتهم».
كان شاويش شقرا يعرف عدد
قطع الفراكة في كلّ جمل
استطاعت البلديات حينها رصف معظم الطرقات الداخلية بمساعدة الأهالي وتعاونهم، فالعمل يصبح جماعياً، واستخدم الباطون للأزقة الداخلية، وكان العمل دقيقاً، حتى بعض طرقات المنطقة الداخلية لا تزال من الباطون الذي عبّدت به الطرقات حينها. ويذكر الأمين أن «الأهالي كانوا يلتزمون بدفع ضريبة المسقفات، ويعمد الشاويش إلى مراقبة جودة اللحوم، معتمداً على خبرته الخاصة، ويتأكد من عدالة ميزان البائع، وعياراته المتعددة، أما الدولة فترسل إلى بلدة تبنين جهاز تفتيشها الخاص، فيأخذ الشاويش عيارات الميزان وإذا جرى التأكد من نقص في الأوزان المعتمدة، يتم رصّ الأعْيِرة بمعدن من الرصاص لتصبح ضمن المواصفات المطلوبة».
ومن أهم إنجازات البلدية الأولى في شقرا، كما يذكر كبار السن، قيامها بتعليق سلال النفايات الحديدية على أعمدة الكهرباء. «وكانت السلّة مكلّفة جداً حينها، يعادل ثمنها 5 ليرات، بعد تثبيتها جيداً». لكن نهاية المجلس البلدي كانت مؤسفة، كما يجري حالياً في أكثر من بلدية. فقد كانت غالبية الأعضاء مؤيدة لحزب البعث السوري (خمسة أعضاء من أصل تسعة). وبعد خلافات متعددة، استقال الأعضاء المعارضون الأربعة لتصبح البلدية من خمسة فقط. ونتيجة لخلاف مع أحدهم على خلفية قرار بلدي بتعبيد طريق لحسابات اعتبرها خاصة، استقال الأخير ليصبح المجلس منحلاّ. وتبقى البلدة من دون مجلس بلدي لأكثر من ثماني وعشرين سنة. ويذكر محمد العلي أنه في آخر اجتماعات المجلس البلدي، وكانت تعقد اجتماعات المجلس البلدي ليلاً، «لم تكن الكهرباء قد أنعمت علينا بعد، فكان أحد أعضاء البلدية يحضر معه قنديلاً يعمل على الكاز، وعندما يرفض المجلس البلدي اقتراحاته يخرج وبيده القنديل تاركاً العتمة وراءه، فيضطرّ المجتمعون إلى إلغاء الاجتماع».
يحنّ العلي إلى تلك الأيام، عندما كان الشرطي البلدي، يتوجه، عندما يضبط أي مخالفة، إلى منزل صاحبها فيطرق الباب بقوة تعبيراً عن الغضب لردع جميع أبناء الحيّ من ارتكاب المخالفات. وكانت المخالفات تقتصر على «رمي المياه الآسنة في الشوارع، والاعتداء على المحاصيل الزراعية، لا سيما من رعيان الماعز، ومعاقبة كل من يتأخر عن دفع الضريبة عن الأبقار التي يملكها». ويشهد أبناء البلدة أن الشرطي «كان لا يميّز بين شخص وآخر أثناء توجيه العقاب ودفع الغرامات، وقد ضبط مخالفة قامت بها زوجته، عندما رمت مياهاً آسنة على طريق منزلها». ويتذكر حسين ذيب كيف كان «أبو مصطفى يخيف الأهالي عند مروره بزيّه الرسمي، ويحمل صافرته، التي يستخدمها لإيقاف الأشخاص عن فعل المخالفات، فقد كان الأمن مستتباً في البلدة من ورائه، ويكفي أن يهدد المواطن باستدعاء الشرطي ليمنع أي مخالفة كانت».