اخبرني طبيب نسائي صديق ان مريضاته في لحظات الولادة يشتمنه أو يشتمن أزواجهن كنوع من التعبير عن الألم، وكأسلوب ناجح للتخفيف منه. فللشتائم، على ما يقول هذا الطبيب الصديق، بحسب دراسات بريطانية، قدرة على تسكين الآلام. وأخبرني أن القيمين على دراسة قرأ نتائجها على احد المواقع الإلكترونية، طلبوا من 64 شخصاً وضع أيديهم في دلو مياه مثلجة بعدما قسموهم إلى مجموعتين، سمحوا لواحدة منهما باستخدام شتائم جارحة، فيما حظروا ذلك على الثانية، وثبت لهم أن الذين تمكنوا من إطلاق السباب والشتائم بحريّة كانوا أقدر على تحمل الألم وظلت أيديهم في المياه لفترة أطول.
هنا تحضرني ايضاً حادثة أخرى عن خال أمي، الذي كان عصبياً، وارتكب ابنه الأصغر «خطيئة» (!) بأن اضاع مالا كان قد اعطاه اياه لإيصاله إلى أحد اصدقائه. فلما عرف بالحادثة من زوجته، جلس متوتراً، ينتظر عودة ابنه، جسده يرقص من اخمصه الى اعلاه، ونسبة السكر في الدم في اعلى مستوياتها (كان يعاني داء السكري). كانت زوجته تحاول طوال الوقت تهدئته، وهو يزداد اضطراباً وارتعاشاً عصابياً، الى ان وصل الابن أخيراً، وكان الأب في أقصى درجات غضبه، فما كان منه إلى أن نادى على ابنه بالصراخ: «حمووووووودييييي!!!». وحينما تقدم حمودي المسكين من كتلة الغضب المدعوة اباه، وكان ينتظر أن ينهال كفه صفعة على وجهه، فوجئ بوالده يصرخ فيه، بتكرار هستيري: «انت مثل اجري يا حمودي... انت مثل اجري... سامع؟! مثل إجري!». افرغ الرجل الغاضب مخزون غضبه بشتيمة (عادية بعض الشيء). نجا ابنه من صفعة أو رفسة أو ضرب مبرح بالحزام، كما يفعل آباء آخرون، ونجا هو على الغالب من وعكة صحية كان سيتسبب بها الارتفاع المفاجئ للسكر في الدم، فقط لأنه عرف كيف يتخلص من الغضب الذي يتملكه، بشتيمة راح يصرخ بها في وجه ابنه. قد يرفض كثيرون فكرة الشتم في هذا الموضع كما في مواضع أخرى، لكنها أنقذت طفلاً، في مجتمع متوتر، من ضرب مبرح، كان سيقدم عليه آباء كثيرون لو وضعوا في الحالة نفسها.
بلى، هذا مديح للشتائم. وهو مديح مستحق لوسيلة تعبير يستخدمها كثير من البشر لتفريغ غضبهم، أو ايصال اعتراضهم، أو حتى التعبير عن مشكلة نفسية ما، كما يؤكد علم النفس في أكثر من موضع، إذ إن الشتم يعكس مشكلة مكبوتة تؤدي بصاحبها إلى الغضب المكبوت، الذي يتفجر بالشتيمة، فيخرج من قمقمه الضيق. فكم منكم، اعزاءنا القراء (هنا يحلو لي مثلاً أن استخدم شتيمة محببة، لن استخدمها لدواع تحريرية)، تنفرج اساريره عندما يشتم حماراً يقود سيارة في شوارع العاصمة، ضارباً عرض الحائط بجميع قوانين السير وقوانين الطبيعة على السواء؟ وكم منكم، يحلو له، وهو يتفرج على التلفزيون، أن يشتم سياسياً أو إعلامياً أو فناناً، أو مراسلاً تلفزيونياً (مثل حضرتي؟)، ويشعر بأن شتيمته هذه ترضي اعتراضه على ما يتفوه به السياسي أو الإعلامي؟ كم منكم (ومنكن طبعاً) يشعر بالارتياح حينما يشتم (أو تشتم) طاغية تلتصق مؤخرته بكرسي الحكم ولا يتزحزح، لا بثورة، ولا بحرب أهلية ولا بحرب كونية؟ كم منكم (ومنكن) يفرغ غضبه ويداوي يأسه من انحراف الثورات العربية عن مسارها، وجنوحها نحو الدم والخراب، بأن يشتم كل من ركب دابة الثورة رغماً عنها، وكل من ساقها إلى الهاوية، وكل من حوّلها إلى مرحاض لبراز الطائفية والعنصرية والعنف الدموي؟ كم منكم (ومنكن) (هناك من سيشتمني الآن بالذات لإصراري على المساواة بين الأنثى والذكر)، يشتم في سرّه، تحبباً أو غيرة، حينما تمر امرأة جميلة من أمامه (أو أمامها؟).
الرجال سيقولون: «اخت الـ*** شو حلوة»، والنساء سيقلن: «ليكي هالـ*** شو فلتانة». طيب، بشرفكم (هذه المرة للرجال فقط)، كم مرة تقفز الشتيمة إلى افواه بعضكم حينما تشاهدون سيارة جميلة. تقولون: «اخت منـ**كة!». ألا نعبر، حينما نلتقي أصدقاء بعد غياب طويل، بأن يستخدم بعضنا الشتائم للتعبير عن الاشتياق: «ولك اشتقتلك يا اخو الش...». بعضنا يكفر لصاحب موال رائع يسمعه من صوت اعجازي. بعضنا يشتم لاعبي كرة القدم حينما يخطئون التسجيل، أو يرتكبون الأخطاء. وبعضنا يشتم مترجمي الأفلام حينما يترجمون الشتائم الأميركية البذيئة بـ»تباً لك»، و»اذهب إلى الجحيم»، لكن لا بد، في معرض مديح الشتائم، التنبيه إلى مجموعة من النصائح المفيدة: - لا تشتم من هم اضعف منك. - لا تشتم اصحاب العضلات. - تجنب الشتائم الجندرية. - وانت تقود، حاول ان تشتم وتهرب. واطلق البوق ابتهاجاً. - شتم الطبقة السياسية اللبنانية واجب وطني. أخيراً، بشرى سارة للسيدات: الدراسة إياها التي أخبرني عنها صديقي الطبيب النسائي، تلحظ ان قدرة الشتائم على خفض الألم تتزايد عند النساء، مرجحة أن يكون سبب ذلك لجوء الرجال إلى استخدام السباب طوال الوقت، الأمر الذي يخفف من تأثيراته الإيجابية.