على باب دكانه يقف صاحب السمرة والعيون الخضر مراقباً زخات المطر. يحاول أحمد السيّد إخفاء وجعه لكنه لا يفلح. لحيته الطويلة المبعثرة والدموع التي تتسابق لاحتلال مقلتيه تفضحانه. نسأله عن حاله، فيجيب «على حالي». لا يكاد يطفئ لفافة سيجارته، حتى يشعل واحدة أخرى. «أنا متعب»، يقولها مستسلماً وهو يتحدث إلى صورة ابنه المعلقة قبالته على الحائط. لم يكن هكذا عندما زارته «الأخبار» في فترة أسر ولده علي. كان بشوشاً وتحدّث بتفاؤلٍ نسبي. اصطحبنا إلى حديقته المتواضعة في بلدة فنيدق، وقطف لنا بيديه تفاحاً بلدياً لذيذ المذاق وحمّلنا أكياساً كثيرة منه. اليوم، استبدل التفاح بالسجائر. باتت خبزه اليومي منذ رحيل علي. في الوقت عينه، يصرخ الرجل الخمسيني بوجه أولاده إن رآهم يدخنون. يغادر أحمد منزله باكراً إلى عمله في دائرة النفوس ولا يعود إلا مع غروب الشمس. يعرّج على محله المخصص لبيع اللحوم المثلجة في وسط فنيدق. يطلع من ابنه الأصغر «حمادة» على كيفية سير العمل. يجلس على كرسيه الخشبي قبالة الباب، ملقياً التحية على صديق ومودعاً آخر، إلى أن يحل الليل فيعود أدراجه إلى منزله الكائن على أطراف القرية.

هناك، يسهر في الباحة الخارجية متأملاً حتى ساعات الفجر الأولى. «ركوة» القهوة بالقرب مني والريح الجبلية الباردة تعصف بوجهي، أفكر في كل شيء، لا سيما في علي». يذرف دموعه الحارقة ويقول راجياً «انكسر ظهري، لكنني لا أريد التحدث عنه البتة». يخبرنا عن هواياته. «أنا أعشق صيد الطيور.

كنت أذهب كل يوم تقريباً إلى الجرد لأصطاد. وفي إحدى المرات اتصل بي مجموعة من أصدقائي وقالوا إنهم يريدون أن يتحدوني. قبلت التحدي معهم، بعدما ذهبت إلى أحد محال بيع لوازم الصيد وابتعت أهم خرطوش في فنيدق. وعند المبارزة اكتشفت أنني وقعت في الفخ. الخرطوش الذي حصلت عليه «فافوش». خجلت جداً وهربت، وفي اليوم التالي لقّنت صاحب المحل درساً».
يتابع «كنت عصبي الطبع، وحاد المزاج، إلى درجة أنني تزوجت وأنا في السابعة عشرة من عمري». يسترسل في سرد تفاصيل زفافه، فرحاً بالكشف عنها لأول مرة أمام أبنائه؛ «كانت زوجتي حينها في الثالثة عشرة من عمرها. بعد خطوبتنا حصلت بعض المناكفات مع عائلتها. في أحد الأيام، وبعدما اشتدت المشاكل، انتهزت فرصة غياب أهلها عن المنزل ودخلت. قلت لها هيا بنا نحن سنتزوج، فتفاجأت بطلبي. ترددت فحملتها بين يديّ وأخدتها شليفي (خطيفة)». أما عن سبب تخليه عن الدراسة فيقول أحمد «كنت من الأوائل في مدرستي، ولكن الوضع المادي السيّئ دفع بي إلى التخلي عن الدراسة».
لم يمتهن أحمد شيئاً في حياته سوى مهنة البناء. كان طموحه أن يكون مهندساً، وقد حقق جزءاً منه، فهو من رسم على الورق مجسّماً لمنازل أولاده وعدد كبير من جيرانه. أحب الأرض كثيراً وتعلق بها. «أعتني بحديقتي كما أعتني بنفسي، لأنني أحب الحياة في القرى ولا أطيق وحشة المدن».