سيمون العازار- آسيا بالبترون؟!
- لا خيي، صحيح شايفين حالنا، بس مش ها القد!
«أصيا»، بالصاد. يكتبونها بالسين أحياناً، لكنها تُلفظ بالصاد. قرية لبنانية في قضاء البترون، لطالما عُرفت بالصناعة اليدوية لأواني الفخَّار، ولا تزال، ولكن بدرجة أقلّ بكثير من السابق.
كان السيّاح يتوافدون بالمئات، عرباً وأجانب إلى البلدة. يشترون الآنية الفخَّارية على أنواعها. يعرفون قيمة التعب، ولا يسألون عن السعر. واللبنانيون كذلك. لكن الأمور تغيَّرت بسبب الأوضاع، خصوصاً المادية الصعبة، وأخيراً الظروف الأمنية.
رغم ذلك، لا تزال فاديا لاوون، ابنة قرية دبل الجنوبية المتزوجة في أصيا، تعمل في الفخار. ستينية نشيطة، تجلس أرضاً، تتلاعب بالطين فيخرج من بين يديها صحناً أو مقلاةً أو مزهريةً. تقول: «نحن لا نتميَّز بصناعة الفخَّار، لكن ما يميِّز أصيا هو الاعتماد في العمل على المهارة اليدوية وحدها».


الطين واليدان.
اليدان تؤمِّنهما فاديا، أما الطين، فترابٌ «درغاني» ينقله زوجها من محفار في أصيا. تراب أرض غير مزروعة، تُضاف إليه قطع من صخرة، يطحنونها، «ملح قاق» كما يسمُّونها. والماء.
«كل المواد طبيعية، ولا نشتري شيئاً. نغربل التراب لتصفيته من الشوائب ونضيف الملح قاق والماء. نمزج الكلّ، فيصبح هكذا». تشير إلى خليط عجينيٍّ مُدَّ أرضاً، في الخارج، على الإسمنت، لكي يجفَّ قليلاً. «نقعِّدها»، كما تقول.
أسبوع واحد ويصبح الخليط جاهزاً لتحوِّله يدا فاديا إلى آنيةً صالحة للاستعمال. ينقلونه إلى الداخل: مشغل الفخَّار غرفة ملاصقة للمنزل، فيها بضاعة جاهزة صُفَّت في خزانة قديمة وعلى رفوف خشبية. لا تميِّز العين، للوهلة الأولى، المقلاة من أختها. لكنك حين تقترب، وتحملهما بحذر مبالغ فيه، تنتبه إلى فرادة كل واحدة: هنا ضغطت اليدان أكثر، وعند حافة تلك المقلاة تفنَّنت فاديا أكثر في تدوير الزوايا.
«لا أحد غيري في المنزل يعمل بالفخَّار، لكن الجميع يساعدونني في بعض التفاصيل». ورثت فاديا هذه الصنعة عن حماتها، التي «لم تكن راغبة في أن أمتهنها في البداية». يكفيكِ العمل مع العائلة في مكسر الصخور قالت لها. بعد حين، «صرت أساعدها قليلاً، ثم قمت يوماً بتحضير تنكة واحدة من التراب، وصنعت منها بعض المقالي. بعت الواحدة بليرة ونصف الليرة.
ومن يومها انطلقت». في مرحلة لاحقة، صارت تحمل منتجاتها وتبيعها في منطقة البربارة الفاصلة بين محافظتَي جبل لبنان والشمال، والمعروفة بنقاط بيع المنتجات المصنَّعة يدوياً. فخَّار وخيزران وقصب.
في أصيا، وفي بداية القرن الماضي، وقبل فاديا، كان الرجال يحمِّلون المنتجات الفخَّارية على الدواب ويذهبون بها إلى بعلبك، ويعودون محمَّلين بالفاصولياء والبطاطا.
الأعمال اليوم غير مستقرة. زبائن فاديا واثنتين من صانعات الآنية الفخَّارية غيرها في أصيا، هم حصراً مطاعم المنطقة والسكان المحليون.
«الشيف رمزي»، الطبَّاخ المعروف، يملك مطعماً، يشتري أحياناً الأواني الفخارية من فاديا. أما مريم نور، فقصةٌ أخرى. زارت فاديا واشترت بعض الفخَّاريات، لكنها «استهولت» السعر. خمسمئة ألف ليرة لبنانية. فاوضت عبثاً، وهدّدت بإعادة كلّ ما اختارته بحجة أنها لا تدفع عادة، بل يقدّم لها ما تختاره كهدايا، فقالت لها فاديا: كما تحبين. عندها، وبعد استشارة صديقتها، دفعت المبلغ لكنها تناولت مقلاتين إضافيتين وهي خارجة. «عا البيعة»، كما يقال.