ليس مصنع «أبو جورج للفخار» غريباً عن أبناء مدينة الميناء الشمالية. حرفة صنع الفخار هي التي باتت غريبة عن شباب هذا الجيل. برأي الفاخوي جورج عريرو «لولا المساحة الصغيرة التي خُصّصت في كتاب التربية المدنية لتعريف الأطفال على تراثهم لاندثرت الحرف منذ سنين». عتبه على الحكومة اللبنانية بلغ حد اليأس، بنظره «إيد وحدة ما بتزقف. نناضل كثيراً في سبيل إبقاء الحرفة على قيد الحياة لكننا نفشل، فلا البلدية تهتم ولا الوزارات المعنية تحرك ساكناً تجاهنا».

يجلس جورج داخل مصنعه المُشيّد قبل 350 عاماً، بزيّه التراثي: شروال أسود ملطّخ بالطين، وقميص أبيض تفوح منه رائحة الأرض والتراب، ومنديل أبيض حول رأسه، فوقه «لبادةً» تقيه حر الصيف. يتأمل ما صنعت يداه حيناً، ويترحّم على أمجاد الماضي حيناً آخر. «منذ الحرب العالمية الثانية ونحن نعمل في صناعة الفخار. سقف المصنع شُيّد في عام 1939 ولا يزال على حاله إلى يومنا هذا. رغم أن الحرفة كانت موجودة في عهد أجدادي في مصنع آخر شُيّد بالقرب من مرفأ طرابلس، لذا سُميّ أحد أبراج الميناء السبع برج الفاخورة قبل زواله نتيجة الهجمة العمرانية».
ذاع صيت فخار أبو جورج كثيراً في العالم العربي، لا سيما الأردن وسوريا والعراق. «كنا نصدر آلاف المنتوجات يومياً». يسحب الرجل الخمسيني الأسمر صوراً من أرشيفه المخبأ في أحد أدراج مكتبه. يعرضها، ويتذكر. هنا، فرحة بوصول نقلات الطين والأتربة من الجبال «تفرغ الشاحنات حمولتها على بعد أمتار من المصنع. نحمل المعاول والعصي ونبدأ بفرط الأتربة حتى تصبح ناعمة كرمال البحر». يحمل صورة أخرى بين يديه ويتابع قائلاً: «ننقل الأتربة إلى حفرة ضخمة ونملؤها بالمياه. ثم ننزل إلى داخلها كما في الصورة. نُحرّك أجسادنا بقوة فيها حتى يمتزج الطين مع المياه، فتخرج منه كل أنواع الحجارة». يضيف جورج «عند الانتهاء نعرض الطين إلى أشعة الشمس حتى ينشف. بعدها نباشر باستخدامه. نحمل أجزاء منه ونضعها على الدولاب المعدني، نقلبها بين أيدينا صانعين الأشكال التي نريد. من ثم نتركها عرضة للهواء حتى تجف، لنأخذها ونشويها داخل الفرن على حرارة مرتفة جداً فتصبح فخاراً».
كانت هذه العملية تتكر صبيحة كل يوم قبل نجو عشرين سنة وفق ما يؤكد جورج، أما الآن فهو بالكاد يصرف إنتاجه المصنوع منذ أشهر. يضحك في سرّه مستذكراً أول مرة صنع فيها فخارةً «لا أبالغ إن قلت أنني أرتاد الفاخورة منذ ولادتي. كان والدي يصطحبني وإخوتي إلى الفاخورة لنتعلم سر المصلحة. تعلقنا بها فعلاً وأحببناها، وأذكر أول مرة صنعت فيها صحناً من فخار كنت في الـ11 من عمري. جاء زبون إلى المصنع وأُعجب بها فأعطاني خمسة ليرات واشتراها، عندها قرر والدي أن يكافئني فأعطاني خمس ليرات أخرى». يضيف ممازحاً «لشدة فرحي قررت أن أقيم حفلة على شرف صحن الفخار. ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول صنع المزيد إلى أن أصبحت في الـ17 من العمر أصغر معلم فاخوري في المصلحة».
حالياً، يثقل القلق على مستقبل الحرفة كاهله. لكنه يقولها بصراحةٍ «الحرفة تزول». يتكلم جورج عن الفخار كعاشق لا يطيق فراق محبوبه. كفلاح امتزج عرقه بكل حبة تراب في أرضه. تخلى عن طموحه في سبيل المحافظة على تراث أجداده، «أما اليوم أنا لا أقوى على إقناع أطفالي بفعل ما فعلت، لا سيما أن صنع الفخار لم يعد يجني المال المطلوب لاستمرار المصنع. لا مردود ثابتاً للمهنة، وفي أغلب الأحيان توقعني تحت عجز يدفعني إلى الاستدانة لتسديد مصاريف المصنع الضرورية».